ديربورن – «صدى الوطن»
لم يغيّر وباء كورونا المستفحل عالمياً من أنماط الحياة اليومية فقط، وإنما أثّر بشكل جذري على تقاليد عيادة المرضى المصابين وحتى وداع الموتى الذين يسقطون بالآلاف يومياً في جميع أنحاء المعمورة.
وتتعقد تأثيرات الجائحة الفيروسية في المجتمعات العربية والإسلامية، حيث تتداخل الممارسات الدينية بالتقاليد الاجتماعية. وكما اضطر أبناء الجالية في منطقة ديترويت الكبرى إلى تغيير ممارساتهم وأنشطتهم اليومية -إن بشكل طوعي لأغراض السلامة العامة، أو مكرهين بسبب الامتثال للأوامر الحكومية التي تحظر الاختلاط الاجتماعي-فقد دفعهم الوباء أيضاً إلى التخلي عن الكثير من عاداتهم وتقاليدهم في تشييع الموتى وتقديم واجب العزاء.
وعلى غرار معظم المجتمعات في «حقبة كورونا»، شهدت مدينة ديربورن، ذات الكثافة العربية والإسلامية، تحولاً بارزاً في التعامل مع حالات الإصابات بفيروس «كوفيد–19»، حيث انكفأ الناس –على غير العادة– عن زيارات المرضى والاكتفاء بـ«تمنيات الشفاء العاجل» عبر الاتصالات الهاتفية ووسائل التواصل الاجتماعي.
في حالات الوفاة الاعتيادية، لجأ ذوو الراحلين إلى الاكتفاء بنعي أقاربهم عبر صفحات التواصل الاجتماعي، وعذروا المعزّين سلفاً من تقديم واجب «أخذ الخاطر» شخصياً، مبدين تفهمهم لأقاربهم وأصدقائهم ومعارفهم، في هذه الأوقات الحرجة، التي يتهيب فيها الكثيرون من التواجد في الأماكن المزدحمة، حرصاً على سلامتهم وسلامة عائلاتهم.
أما في حالات الوفاة بسبب كورونا، فإن الأوضاع تزداد تعقيداً ورهبة، إذ تفرض الشعائر الإسلامية تغسيل الموتى وتكفينهم وتلقينهم والصلاة عليهم، قبل تشييعهم إلى مثواهم الأخير. ومثلما فرضت الأوامر الحكومية إغلاق الكثير من المرافق العامة، ومن بينها دور العبادة، فرضت أيضاً تقييدات صارمة على تجهيز الموتى وطقوس وداعهم.
وكان عدد الإصابات بالفيروس التاجي في مدينة ديربورن، حتى يوم الخميس الماضي، قد بلغ 334 إصابة، فيما وصل عدد الوفيات إلى 20، لتأتي «عاصمة العرب الأميركيين» في المرتبة الثالثة على مستوى مقاطعة وين، من حيث عدد المصابين، بعد مدينتي ديترويت وليفونيا.
وفي جولة لـ«صدى الوطن» على بعض المراكز الإسلامية، للتعرف على كيفية التعامل مع حالات تجهيز الموتى ودفنهم، أكد الشيخ حمود عفيف، إمام «الجمعية الإسلامية الأميركية» بديربورن، على أن وباء كورونا قد ترك آثاره البالغة على أجواء الدفن والتشييع والعزاء، مبدياً تفهمه للإجراءات الحكومية المتخذة لحماية الناس من آثار الجائحة المستفحلة.
وكان إمام «جامع ديكس» قد أمّ صلاة الجنازة على شخصين في الآونة الأخيرة، أحدهما كان امرأة توفيت متأثرة بفيروس «كوفيد–19».
وقال: «الأصل في الإسلام، أن يُغسل الميت، فإن وجد مانع، فيمكن اللجوء إلى التيمم، ثم بعد ذلك يأتي التكفين، ثم التلقين، ثم صلاة الجنازة».
وأشار الشيخ عفيف إلى أن صلاة الجنازة في كلتا الحالتين ضمت عدداً صغيراً من المشيعين، لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، مع الأخذ بعين الاعتبار توصيات «مركز الوقاية من الأمراض والسيطرة عليها» (سي دي سي)، والتي تقضي بالتباعد الاجتماعي لمسافة ستة أقدام، لافتاً إلى أن صلاة الجنازة هي فرض كفاية يُكتفى بإقامتها من قبل بضعة أشخاص.
وأكد عفيف على مرونة الشريعة الإسلامية، وفق مبادئ شرعية، مثل «لا ضررَ ولا ضرار»، وقال: «إذا منعت الجهات الرسمية غسل الميت وتكفينه لاعتبارات الصحة العامة وتفادي نقل العدوى إلى الآخرين، فيمكن في هذه الحالة دفن الجثمان دون تغسيله أو تكفينه، لكن لا بد من أداء صلاة الجنازة، وهي لا توجب لمس المتوفى ولا الاقتراب منه».
من جانبه، أشار الشيخ باقر بري، من «المجمع الإسلامي الثقافي» بديربورن، إلى أنه أشرف منذ أيام قليلة على دفن أحد ضحايا كورونا.
وقال: «وصلتنا وثيقة من المستشفى تبرز أسباب الوفاة، ولهذا فقد كانت احتياطاتنا مضاعفة».
وأضاف: «تقتضي التعاليم الإسلامية غسل الميت وتكفينه وتلقينه، ولكن بما أن الجثمان وصلنا ضمن كيس أسود، لم نكشف عنه، ولم نقم بتغسيله، وإنما اكتفينا بتكفينه وهو داخل الكيس»، لافتاً إلى وجود رُخص ترفع الوجوبات الشرعية.
وبالنسبة لصلاة الجنازة، فقد أكد بري على أنها أقيمت بمشاركة عدد محدود من ذوي المتوفي، وقال: “منذ بداية أزمة كورونا، حرصنا على اتباع الإرشادات الموصى بها من قبل الجهات المختصة، وعدلنا عن إقامة صلاة الجنازة ضمن الأماكن أو الصالات المغلقة”.
وكانت بعض الدول الغربية قد أصدرت مؤخراً أوامر حكومية تفرض حرق الجثث في حال استمر معدل الوفيات في الارتفاع بسبب كورونا، وقد أثارت هذه الأخبار مخاوف الكثير من المسلمين في المهاجر الأوروبية والأميركية، كون الإسلام يحرم حرق أجساد الموتى.
ولدى توجهنا للشيخ عفيف حول الموقف الشرعي من مسألة حرق جثامين المسلمين، أكد بأنه «لا يجوز حرق الجثث في الإسلام».
وقال: «في حال صدور قرارات حكومية ملزمة، فيجب علينا الالتزام بالقوانين في البلاد التي نعيش فيها، ويجب –في الوقت نفسه– على العلماء الشرعيين أن يجتمعوا ويتدارسوا مثل هذه القوانين إن أقرت، والعمل مع الجهات المختصة، من أجل التوصل إلى حلول لا تصادم الشريعة الإسلامية ولا تؤثر سلباً على قوانين البلاد».
وفي السياق ذاته، استبعد الشيخ بري إصدار مثل هذه القرارات في الولايات المتحدة، وقال: «بالنسبة لنا نحن المسلمين، فإن إكرام الميت هو دفنه، وليس حرقه، ولا أعتقد أننا سنصل إلى هذا الحد». وأضاف: «نظرياً، إذا أصدرت هكذا قرارات، في أميركا أو في غيرها، فعلى المراجع الإسلامية أن يدلوا بآرائهم في هذه المسألة».
Leave a Reply