ناتاشا دادو – «صدى الوطن»
قبل عقود من الزمن، كان الحي الشمالي التاريخي فـي مدينة توليدو بولاية أوهايو، يعج بالمهاجرين العرب القادمين من سوريا ولبنان وفلسطين حيث تملكوا المنازل والمحال التجارية ونشروا ثقافتهم وتقاليدهم التي حملوها معهم عبر البحار حتى صار يطلق على الحي الذي سكنوه اسم «ليتل سوريا» (سوريا الصغرى).
اليوم كل شيء تغير. أصبح حي «نورث أند» خالياً تقريباً من المهاجرين العرب الذين تركوا المنطقة وتوجهوا للسكن فـي الضواحي حتى أن بعضهم انتقل الى ديربورن، فـي ما تُرك الحي ليلقى مصيره تحت وطأة تفشي الجريمة والمخدرات مثل حال الكثير من الأحياء التي اضطر أهلها لهجرانها بحثاً عن مكان أفضل للعيش.
الحي السوري في شمال مدينة توليدو (أوهايو). |
وعلى خطى المهاجرين العرب الذين انتقلوا من «الحي السوري» للعيش بالضواحي الفارهة أو فـي ولايات أخرى، كذلك فعلت المؤسسات الدينية، التي تضمَّنتْ كنيستين سوريتين ومسجداً، فلحقت برعيتها وغادرت المنطقة.
كان «المركز الإسلامي فـي توليدو الكبرى» أحد أولى المساجد فـي توليدو وقد شيد فـي الحي السوري، قبل أن ينتقل جنوباً الى ضاحية بيريسبيرغ، حيث ينتصب المسجد حالياً بالقرب من الطريق السريع «٧٥». ولم يتبق فـي «الحي السوري» بتوليدو سوى مسجد واحد يعرف باسم «مسجد الإسلام».
الحي الذي كان يحتوي نسيجاً سورياً-لبنانياً غنياً بمختلف الطوائف والمذاهب، وتنتشر فـيه المحلات والمطاعم والمخابز، لم يبق من قاطنيه سوى مجموعة قليلة من العائلات والأقارب الذين قرروا الصمود فـي الحي الذي نشأوا وترعرعوا به.
«عملياً لم يبق شيء هنا إلا هذا المسجد»، يقول حسن دودار، من جريدة «توليدو بلايد» الاكترونية، ويضيف «إلى جانب هذا المسجد وبعض الأسر القليلة، هناك القليل جداً.. عملياً لا شيء».
دودار بالتعاون مع «توليدو بلايد» والمصورة الصحفـية كاتي روش شاركوا فـي إنتاج فـيلم وثائقي، بعنوان «آخر أيام سوريا الصغرى» لتوثيق تاريخ وثقافة حي «ليتل سوريا»، وأهميته للأشخاص الذين ولدوا أو عاشوا به، من خلال إبقاء شريط الذكريات حيّاً عبر التركيز على قصة حسن شعيب، اللبناني الذي قرر عدم مغادرة الحي رغم إصرار عائلته وأصدقائه المتخوفـين على سلامته ورفاهية حياته وقد بلغ خريف العمر.
استغرق العمل على انتاج الفـيلم الوثائقي عاماً واحداً وتضمن تحقيقاً ومشاهد فـي توليدو وبيروت. كما يوثق الفـيلم الذي يتضمن شهادات باللغة العربية، تاريخ الحي الذي يمتد الى أواخر القرن التاسع عشر مع قدوم الموجات الأولى من المهاجرين السوريين (قبل استقلال لبنان)، عبر شهادات مع من تبقى من السكان العرب.
فـي البداية فكر دودار بكتابة تقرير عن الحي فقط، وقال انه لم يكن فـي باله القيام بإنتاج فـيلم وثائقي. «أردت أن أكتب شيئاً حول الحي، ولم أعرف حقاً ما قد يَنجمُ عن الكتابة» أكد دودار، وأردف «فـي نهاية المطاف تطور المشروع إلى شيء أكبر».
دودار لم يتعلق بقصة تاريخ الحي لمجرد فضوله الصحفـي ، بل أيضاً لأنه هو نفسه من أصل عربي، حيث أن نصفه لبناني ونصفه الآخَر فلسطيني، كما يقول.
وبدلاً من مجرد كتابة مقال أو إجراء مقابلة لمدة خمس دقائق على الكاميرا، قرر دودار وروش أن يأخذا المشروع فـي اتجاه مختلف. «أنا حقاً بدأت أتعلق بالمنطقة وأرت أن أمضي المزيد من الوقت هنا»، حسب دودار الذي كان لنصيحة والدته باجراء مقابلة مع حسن شعيب، الدور الأساسي فـي تغيير نظرته للحي كون شعيب واحداً من آواخر العرب الأميركيين الذين مازالوا صامدين ومتمسكين بالحي الذي احتضن الآلاف من العرب قبل عقود طويلة.
معظم أصدقاء شعيب وأقاربه وجيرانه السابقين هجروا الحي قاصدين الضواحي تاركين وراءهم منازل وكتلاً إسمنتية خاوية ومخربة تعشعش فيها الجريمة.
قصة شعيب
حسن يملك ويعمل اليوم فـي متجر صغير وهو أب لستة أولاد، وقد هاجر إلى الولايات المتحدة فـي عام ١٩٦١ واستقر أولاً فـي الحي العربي التاريخي حول «شارع ديكس» المعروف فـي مدينة ديربورن (ميشيغن) قبل أن ينتقل الى توليدو وتحديداً حي «نورث أند»، أي «الحي السوري» حيث يقطن منذ حوالي ٤٠ سنة.
شعيب كان يحترف المصارعة اليونانية-الرومانية وقد مارسها فـي سنوات هجرته الأولى الى الولايات المتحدة، قبل أنْ يتعرض لإصابة بالغة فـي كتفه اضطرته إلى الاعتزال. وبعد ذلك بعام، انتقل للعيش بتوليدو، حيث استقر فـي حي «ليتل سوريا»، ضمن الحي الشمالي «نورث إند» من المدينة ومازال حتى اليوم، حيث أصبح رمزاً للمنطقة التي يناضل من أجلها ومن أجل سكانها ويسميها وطنه الجديد، أو «لبنان الجديد» الذي أجمل ما فـيه أن «كل الناس متساوون هنا».
كقصة كثير من المهاجرين، استأجر حسن شقة صغيرة فـي الحي وعمل فـي غسل الصحون فـي حانة محلية ورويداً رويداً، بدأ بجلب عائلته من لبنان لينتقلوا ويعيشوا معه فـي منزله المتواضع فـي «سوريا الصغرى». ابن أخيه، خضر الطويل يصفه بـ«المهاجر الأصلي» وأخته ليلى الطويل تسميه «شجرة العائلة» هو الذي أتى بهم جميعاً الى أميركا حيث تفرقوا بعدها بينما، بقي هو وعائلته فـي المنزل نفسه.
يقول دودار لـ«صدى الوطن» إن «كثيرين من الناس الذين نشأوا هنا أحسوا بالسعادة حقاً لرؤية «النورث إند» حياً من خلال هذا الفـيلم الوثائقي، ولرؤية سيرة حسن شعيب تحديداً. هناك الكثير من الناس الذين عادوا بالزمن إلى الوراء وتواصلوا مع حسن وهذه القصة»، أوضح دودار.
وتقع مدينة توليدو، فـي شمالي ولاية أوهايو وتبعد عن ديترويت حوالي ٥٠ ميلاً فقط.
بقي الكثير من أفراد عائلة شعيب فـي منطقة توليدو الكبرى، ولكن لديه أيضاً أقارب يعيشون فـي مناطق قريبة مثل ديربورن وأُخرى بعيدة مثل فلوريدا. ويملك حسن ويدير مع زوجته، خديجة، متجراً فـي «نورث إند» يبعد مفرقين فقط عن بيتهما. ويقضي شعيب معظم يومه فـي المتجر وهو معروف فـي المجتمع المحلي، ويساهم بشكل كبير فـي نشاطاته.
«أنا فخور جداً بمعرفة هذا الرجل وبمناداته بعمي»، قال موسى شعيب، وهو عربي أميركي من سكان منطقة ديترويت، وتابع «توليدو اليوم مكان أفضل للعيش بسبب عمي حسن وأمثاله».
كما أجرى الفـيلم مقابلات مع العديد من السكان السابقين فـي الحي، ومن بينهم منيرة سعادة-صلوخ التي أعربت عن حزنها الشديد لتدهور حال المنطقة التي كانت تعج بالحياة قبل عقود.
«لقد مر القدامى الأولون على الحي وانتقل الناس منه ومعظمهم وافته المنية قبل انتقال اولادهم للعيش خارج المنطقة. الوضع مختلف جداً اليوم ولم يعد كما كان عليه من قبل.. الماضي لن يعود أبداً»، حيث كان أبناء الجالية قريبين من بعضهم البعض ويقيمون الحفلات والمهرجانات احتفالا بثقافتهم العربية، حيث يعرض الفـيلم الوثائقي مقتطفات احتفالية من مسيرات وأعراس عربية فـي الحي بخمسينات وستينات القرن الماضي.
مقيم آخر، هو توفـيق عواضة (٨١ عاماً) يعيش فـي الحي منذ ٢٠ عاماً، وقد هاجر من لبنان هرباً من لظى الحرب التي دمرت البلاد. يقول «إن الوضع فـي لبنان آنذاك (فـي السبعينات) لم يكن جيداً بسبب الحروب والهجمات، لذلك هربنا الى هنا وسكنا هنا وربما سأموت هنا أيضاً».
شقيق حسن شعيب، محمد شعيب وعمره ٧٠ عاماً ما زال يعيش أيضاً فـي «الحي السوري» منذ ٤٥ عاماً. فـي الفـيديو يتذكر محمد شعيب ان المنطقة كانت تعج باللبنانيين والسوريين واليونانيين والإيطاليين. وتابع «أختي كانت تعيش فـي المنزل المحاذي لي وكان منزل ابنة أخي مجاوراً لمنزلها أيضاً. و«أم جمعة» بجانبها. أما والدتي فكانت تسكن هناك. كان كل الجيران قريبين من بعضهم البعض. لم يكن هناك شيء أجمل من ذلك. لم يكونوا يتناولوا طعام الإفطار من دون بعضهم البعض».
وبنزوح العرب الأميركيين من الحي تغيرت التركيبة السكانية للمنطقة التي صارت أغلبيتها من فقراء الأميركيين الأفارقة والبيض واللاتينيين.
وكشف دودار ان العديد من الاشخاص زاروا شعيب فـي متجره بعد مشاهدة الفـيلم الوثائقي، واضاف «انهم خلال زيارتهم قالوا له إنهم احبوا قصة الحي وسيرته الخاصة هو وإنهم تقصدوا القيام بزيارة خاطفة للمنطقة ليسلموا عليه. وبالنسبة للكثير من الزوار فإنَّ مقصدهم كان إعادة اكتشاف هذا الجزء التاريخي من توليدو». لمشاهدة الفـيلم الوثائقي يمكن زيارة الموقع الإلكتروني www.littlesyriatoledo.com.
Leave a Reply