أهمية “ورقة التفاهم” بين “التيار الوطني الحر” و”حزب الله” تتضح يوماً بعد يوم وتبرهن بأنها الرافعة الأساسية لإنقاذ لبنان من الحروب الأهلية ومن الهريان السياسي والإجتماعي. لقد كانت هذه الوثيقة بحق “ضربة معلم” وكادت أن تبدد الخطأ التاريخي الذي إرتكب عام ١٩٤٣عندما أعلن “الميثاق الوطني” البغيض بين بشارة الخوري ورياض الصلح عقب ما سمي “إستقلال لبنان” الذي أوهمونا في كتب التاريخ أنه تحقق بفضل نضال حزبي “النجادة” و”الكتائب” وليس بسبب الصراع الإستعماري الإنكليزي الفرنسي على النفوذ في الشرق الأوسط! هذا الحزب الأخير (الكتائب) أسسه في ذلك الزمن بيار الجميل مقلداً النمط النازي في ألمانيا لهدف وحيد هو الوقوف في وجه طليعة النهضة السورية القومية الإجتماعية برئاسة الزعيم أنطون سعادة (الذي كان أول من أطلق النفير وحذرمن يهود الداخل). “الميثاق الفئوي”، قيل لنا من قبل مؤرخي مرتزقة الكيانية، أنه جاء كتسوية (“شبه وطن” بدأ بالتسويات، يا للمفاجأة!) بين الموارنة والسنة على تقاسم “جبنة السلطة” وقضى بـ”فطم” الموارنة عن “الأم الحنون” مقابل تخلي السنة عن فكرة الوحدة العربية الوليدة، أما الشيعة والارثوذوكس والكاثوليك والدروز وباقي الأقليات فكان لهم الله ورسوله والمؤمنون. ومنذ ذلك التكاذب المشترك، زرعت بذرة الطائفية السياسية المقيتة ودق إسفين الحروب الأهلية المتتالية المقبلة لأن البلد لم يبن على مواطنية صحيحة بل بني على شراكة مبتسرة ناقصة لم تكن حتى شركة مساهمة!
أما “وثيقة التفاهم” فتكتسب رمزية خاصة في يوم توقيعها في ٦ شباط ٢٠٠٦، قبل خمسة أشهرمن العدوان الإسرائيلي في تموز حيث تحولت إلى إحدى أهم أسلحة المعركة التي أدت إلى النصر المبين رغم أنف فؤاد السنيورة وشاي أحمد فتفت (لا يفش خلقنا حقاً إلا الحاج علي عمار الذي جابه فتفت ووسمه بالإسرائيلي والجاسوس في جلسة المال والموازنة). رمزية الوثيقة “الشباطية” تتجلى في أنها تذكر بإنتفاضة ٦شباط ١٩٨٤ ضد حكم أمين الجميل الموبؤ، عراب “إتفاقية ١٧ أيار” الإسرائيلية التي داستها أقدام مناضلي تحالف القوى الوطنية في الجبل والضاحية. إن عظمة الوثيقة تكمن في أنها استعادت، لأول مرة، أبناء الطائفة المارونية التي ساهمت في بناء لبنان ثقافياً وإقتصادياً وسياسياً، فغيرت “عقيدتها القتالية” وصوبتها نحو العدو الحقيقي المستهدف للبنان كرسالة تعايش وتفاهم بين الحضارات والأديان السماوية، كما أعلن الإمام السيد موسى الصدر. ذلك أن حزب آل الجميل ومعهم كميل شمعون والإقطاع الطائفي كادوا أن ينجحوا في غسل ذاكرة ودماغ الموارنة حول العدو والصديق وإزالة اسهاماتهم الفكرية والثقافية في ألآداب والقومية العربية. فحزب “الكتائب” بدأ تعامله مع إسرائيل مبكراً جداً منذ العام ١٩٥١، أي بعد نشوء الكيان المغتصب بثلاث سنوات (عندما لم يكن هناك غرباء وقبل أن تولد منظمة “التحرير الفلسطينية”، وهو العذر الذي استخدمه لبدء أطول حرب أهلية). كما كان شارل مالك وشربل قسيس وفؤاد فرام البستاني، وقبلهم البطريرك الماروني انطوان عريضة وإلياس الحويك وأميل اده وأغناطيوس مبارك، من أكبر أصدقاء الصهيونية (للمراجعة الإطلاع على كتاب “الجذور التاريخية للمشروع الصهيوني في لبنان” تأليف بدر الحاج). فما فعله العماد عون ليس بالهين؛ لقد تمكن من أن يقرب أكثر من نصف المسيحيين للمقاومة بعد أن كانوا قد تبنوا “البيئة الحاضنة” المعادية، أومعادلة “المجتمع المسيحي من كفرشيما إلى جسرالمدفون” التقسيمية التي فرضها بشير الجميل بالمجازر والتطهير العرقي، والمتقاطعة مع المصلحة الإسرائيلية التي يفتخر بها اليوم غلمان السياسة وصعاليكها. ولا ننسى أنه رغم أخطاء العماد عون بعد خطيئة أمين الجميل المتعمدة لتدمير لبنان من بعده (أي من بعدي الطوفان) عقب رفض الرئيس حافظ الأسد التمديد له، فأن له الفضل في إنهاء الحرب الأهلية بسبب “كسر” ظهر “القوات” الجعجعية. ربما لهذا السبب تحول عون بنظر البطرك صفير الذي طوبه زعيماً للمسيحيين (قبل “ورقة التفاهم”)، إلى مجرد تابع لولي الفقيه. وعلى سيرة صفير، فقد نفى أنه صرح بأن المحكمة الإسرائيلية البلمارية مسيسة (والعياذ بالله) والذي نقله عن لسانه رئيس المجلس العام الماروني وديع الخازن، فمن نصدق؟ الظاهر أن دعوة سليمان فرنجيه إلى بكركي لتناول الغذاء لم تحدث أي أثر!
نخلص من كل هذه الديباجة لنصل إلى كلام سمير جعجع في إحتفال “القوات” في “ملعب فؤاد شهاب” في جونية الذي لعب فيه بأرواح “الشهداء” الذين سرق منهم ما سرق، كما ذكر “قدامى القوات” الذين أضافوا أن سلاح “القوات” بيع من قبل جعجع وحاشيته بمبلغ ٨٠٠ مليون دولار. الإحتفال نفسه بدأ بـ”الزعبرة” عندما قطعت “القوات” الطريق للتسبب بعجقة سير خانقة للإيحاء بجماهيرية المهرجان (مثل جماهيرية القذافي الفارغة) وهذا الأسلوب ليس غريباً عن “القوات” على أي حال. وقد خصص سمير جعجع معظم “خطبته” العصماء، التي وصفت بأنها أقل من عادية ولو كانت مطعمة ببعض أبيات الشعر ربما للدلالة على سعة “إطلاعه”، للجمهور العوني محاولاً إستمالته وإعلان “توبته” على يد صاحب “الأيادي البيضاء”، نصير العدالة والمحكمة المتخبطة اليوم خبط عشواء بعد الإستقالة الحادية عشرة من مكتب المحتال الكندي بيلمار، مثلها مثل إنفراط عقد امبراطورية “المستقبل” الإعلامية! جعجع وزع سهامه حتى على الحريري الأب والإبن (عدم وجود الدولة أثناء رئاسة الرئيس الشهيد للحكومة منذ التسعينيات وحتى ٢٠٠٥ التي تخللتها سنوات سجن جعجع “ظلماً” بعد تبرئته من دم داني شمعون ورشيد كرامي، وأن شهود الزور تصنفهم المحكمة فقط أي لا أحد آخر -ولاحتى سعد). ورغم ذلك ما زال سعد متمسكاً بحلفائه “حتى الموت”!
حرض جعجع مطولاً ضد العونيين فقط لأنهم صححوا الإنحراف وعطلوا أضغاث أحلامه “الامبراطورية”. لكن الزمن لم يعد زمن جعجع بل زمن “التفاهم”، والشعب المسيحي الذي خبر الويلات والخوات والنفايات النووية السامة لن يسمم أفكاره من جديد من قبل من أصبح لا محل لهم من “المعراب”!
Leave a Reply