«طاولة بعبدا» التي دعا إليها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون للتشاور، رؤساء الأحزاب المشاركة في الحكومة، هي الأولى في عهده الذي مضى عليه ثمانية أشهر، ولكنها ليست جديدة في الحياة السياسية في لبنان، وقد سبق أن عُقدت عدة لقاءات وخلوات وحوارات، في مختلف العهود الرئاسية، وكان آخرها «طاولة الحوار» في عين التينة والتي عُلّق عملها قبل أشهر من انتخابات رئاسة الجمهورية.
زلزال اغتيال الحريري
الرئيس نبيه برّي كان أول مَن افتتح «طاولة حوار» ما بعد اتفاق الطائف في مطلع آذار 2006، وكان اللبنانيون بحاجة إليه، بعد زلزال أمني وسياسي ضرب لبنان، إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، والتداعيات التي نجمت عنه، داخلياً وإقليمياً ودولياً، فانسحب الجيش السوري من لبنان، وانتقل الملف فيه من عهدة النظام السوري إلى الرعاية الأميركية المباشرة، إذ دخل لبنان في مشروع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، «للشرق الأوسط الجديد»، ورسم خارطة جديدة له، مع إطلاق «ثورات ملونة» فيه، كان نصيب لبنان «ثورة الأرز»، وهو ما أعاد رسم معالم الصراع السياسي الداخلي، فانقسم اللبنانيون –أو غالبيتهم– بين قوى 8 و14 آذار، فيما كان المشروع الأميركي للمنطقة، قد تبلور بالقرار الأممي 1559، الذي يدعو إلى حل الميليشيات أي نزع سلاح المقاومة، وانسحاب القوات السورية، ورفض تعديل الدستور للتمديد للرئيس إميل لحود.
في ظل هذا الانقسام العمودي بين اللبنانيين، والذي بدأ يظهر في الشارع، ورافقه توجيه اتهام لسوريا ونظامها الأمني في لبنان، باغتيال الرئيس الحريري، وصدور قرار دولي بتشكيل محكمة دولية خاصة بلبنان لمتابعة القضية، كان لا بدّ من طاولة حوار تخفف الاحتقان السياسي، وتمنع انزلاق لبنان نحو الفتنة، التي حاول «التحالف الرباعي» في الانتخابات النيابية عام 2005، بين كل من «حركة أمل» و«حزب الله» و«تيار المستقبل» والحزب التقدمي الاشتراكي منعها، فحدّ منها دون أن يوقفها، لتتصاعد التوترات السياسية والأمنية وتتحول إلى اشتباكات عسكرية عام 2007، بعد انكشاف تواطؤ أقطاب في 14 آذار مع الإدارة الأميركية على نزع سلاح المقاومة، وهو ما ظهر بوضوح أثناء الحرب الإسرائيلية الأطول على لبنان صيف 2006، ثم في تفكيك شبكة اتصالات المقاومة في 5 أيار 2008، وحسمتها المقاومة بأن سيطرت على بيروت وقلبت موازين القوى الداخلية لصالحها.
الربيع العربي
إعادة إطلاق الحوار الداخلي، كانت ضرورية للحفاظ على الاستقرار الأمني في لبنان، وباتت الحاجة إليه أكثر إلحاحاً مع اندلاع «الربيع العربي»، والذي تزامن مع استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى مطلع عام 2011.
انتقلت طاولة الحوار من مجلس النواب إلى القصر الجمهوري حيث جمع الرئيس ميشال سليمان رؤساء الكتل النيابية في ظل أجواء من «الوفاق العربي» حول لبنان، تمثل بالمصالحة السورية–السعودية التي سبقت الربيع المزعوم، والتي كان الرئيس برّي يعوّل عليها ويعلن أن الـ «سين – سين» هي الكفيلة بالإستقرار في لبنان، وهذا ما حصل لمدة ثلاثة أعوام ما بين 2008 و2011، إلا أن إنفجار ما سمي بثورات الربيع العربي ووصولها إلى سوريا على تخوم لبنان، أعاد التوتر إلى الساحة اللبنانية بين مؤيد للنظام السوري، ومعارض له، وهو ما دفع بالرئيس سليمان إلى طرح «إعلان بعبدا» كوثيقة وطنية «تحيد لبنان عن الصراعات الخارجية»، وتمنع وصول الحريق إليه، بعد أن اشتعل في سوريا.
«إعلان بعبدا»، لم يمنع «حزب الله» من أن يُرسل قواته إلى سوريا، وتحديداً إلى المناطق القريبة من لبنان، لاسيما في بلدة القصيّر بريف حمص لمقاتلة الجماعات الإرهابية التكفيرية كي تكبح تمددها باتجاه الأراضي اللبنانية، في ذروة توسعها داخل سوريا واستيلائها على مناطق شاسعة فيها. وقد نجح الحزب، من تحرير كامل المناطق المحاذية للحدود مع لبنان في السلسلة الشرقية منه، وباتت المناطق آمنة بالكامل من الزبداني إلى جبال القلمون ويبرود وقارة وصولاً إلى القصيّر وكل ريف حمص، وهو ما سمح لمئات العائلات السورية في عرسال وغيرها بالعودة الآمنة إلى بلداتهم، بعد أن أعلن الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، قبل أسابيع، عن انتهاء العمليات العسكرية، ودعوة المسلحين إلى المغادرة طوعاً، قبل الحسم العسكري المنتظر في أي وقت.
وقد تبرأ «حزب الله» من «اعلان بعبدا» في وقت لاحق واعتبر أنه أصبح حبراً على ورق. مؤكداً أن انخراطه في الحرب السورية حمى لبنان من المجموعات الإرهابية، وأوقف تدفق السيارات المفخخة إليه، وقد نجح في حربه الاستباقية، بتحييد لبنان ومنع التكفيريين من نقل المعركة إليه، رغم محاولتهم ذلك في آب 2014، عقب الاستيلاء على مواقع الجيش في بلدة عرسال والتمدد نحو البقاع ومنه إلى الشمال بهدف إقامة «إمارة إسلامية».
عودة الحوار إلى عين التينة
بعد انتهاء عهد الرئيس سليمان، أعاد الرئيس نبيه برّي الحوار إلى عين التينة، للاتفاق على سلة كاملة تتضمن رئاسة الجمهورية والحكومة وقانون الانتخاب، لكن التجاذبات حول الرئاسة الأولى منعت حصول ذلك، إلى أن حصل تفاهم غير مباشر سعودي–إيراني، ايدت فيه الرياض انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية ولو أنه كان مرشح «حزب الله»، فوافق سعد الحريري ضمن صفقة تجعله رئيساً للحكومة من جديد، فيما بقي قانون الانتخاب عالقاً، حتى حصل توافق سياسي حوله، وسارت القوى المعارضة للنظام النسبي به، ووُلد القانون، دون أن يقع لبنان في الهاوية، وهي الفراغ في مجلس النواب.
وبذلك ترأس بري على 3 مراحل طاولتي حوار وطاولة تشاور ولكن الطاولة الأولى الجامعة تعطّلت بفعل حرب تموز 2006، وطاولة التشاور انتهت إلى انسحاب وزراء «حزب الله» و«أمل» من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وتنفيذ اعتصام طويل في وسط بيروت فيما طاولة الحوار الثالثة انتهت من دون أي مفاعيل وشهدت تباعداً بين الرئيس بري والتيار الوطني الحر.
ميثاق عون
لم يمضِ أسبوع على إقرار قانون الانتخاب حتى دعا رئيس الجمهورية إلى لقاء في قصر بعبدا، حصره برؤساء الأحزاب المشاركة في الحكومة، فهو ليس حواراً مفتوحاً، ولا اجتماعات دورية، ولا يشبه ما جرى سابقاً في مجلس النواب ثم القصر الجمهوري، فلقاء بعبدا، كان دعوة إلى طاولة لمناقشة وثيقة قدمها الرئيس عون لعشرة مدعوين، ممثلين في الحكومة، طرح فيها تصوره للمرحلة المقبلة في الشأن السياسي والدستوري والاقتصادي، ليأخذ موافقة ودعم القوى السياسية، وهم في غالبيتهم يمثلون الكتل النيابية، كما الأحزاب الفاعلة، باستثناء حزب الكتائب وبعض المستقلين.
التأمَ الأقطاب على طاولة قصر بعبدا بضيافة الرئيس عون. حضر الجميع تقريباً باستثناء الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله لدواعٍ أمنيّة ورئيس الحزب التقدميّ الاشتراكيّ النائب وليد جنبلاط الذي يزور موسكو. مثّل الأوّل رئيس كتلة الوفاء للمقاومة الحاج محمد رعد بينما الثاني مثله الوزير مروان حمادة.
وركزت الوثيقة التي دام النقاش حولها نحو ثلاث ساعات على طاولة بعبدا، على «أن لبنان استعاد عافيته السياسية عبر مسار وطني ميثاقي واستقلالي أدى إلى انتخاب رئيس بإرادة اللبنانيين وتأليف حكومة وحدة وطنية من صنعهم وإقرار قانون انتخابات نسبي جديد بإرادتهم».
وتضمّن الإعلان الذي انبثق عن طاولة بعبدا سبل تطوير البلاد، وكان أهمّها بند «الانتقال إلى الدولة الشاملة التعدديّة، واعتماد الشفافيّة، وتفعيل الإدارة من خلال إعادة هيكلتها وتفعيل عمل الهيئات الرقابيّة وجهاز أمن الدولة، وضرورة إقرار اللامركزية الإداريّة في أقرب وقتٍ ممكن».
ومع اكتمال السلة التوافقية التي كان الرئيس برّي دعا إليها، تفادياً لإضاعة للوقت وتأزيم الوضع السياسي وتعثر الاقتصاد، فإن الرئيس عون سيبدأ عهده فعلياً بعد أن استهلك ثلثه، دون حصول إنجازات يتوق إليها المواطنون، وأبرزها تأمين الكهرباء والمياه واستغلال السدود، ثم إقرار موازنة عامة لأول مرة منذ 12 عاماً، والبدء باستثمار الثروة النفطية، تمهيداً لتفعيل الإقتصاد وزيادة الإستثمارات والنمو، إضافة إلى تأمين فرص العمل والإصلاح الإداري وتفعيل دور وعمل الرقابة والقضاء.
هذه العناوين الاقتصادية والإصلاحية الكبرى، هي ضرورية وملحة، وقد وردت في البيان الوزاري للحكومة الحالية وكذلك الحكومات التي سبقتها، إلا أن العبرة تبقى في التنفيذ الذي وعد رئيس الجمهورية أن يكون كاملاً ومطابقاً لما ورد في الوثيقة، التي يمكن القول إن أهم إصلاح فيها، هو تأكيدها على إلغاء الطائفية السياسية وهي علة لبنان وقد نص اتفاق الطائف على تشكيل هيئة وطنية للبدء بانجاز ذلك على مراحل، وهو تحرك لم يتم في عهود سابقة، وإذا نجح عون في إطلاق مساره فسوف يسير بلبنان نحو دولة مدنية، وبذلك يكون الرئيس قد حقق إصلاحاً –ولو مبتوراً في قانون الانتخاب– للبدء باجتثاث الطائفية من مفاصل الدولة.
Leave a Reply