بقلم: كمال العبدلي
لا بدَّ من التسليم في البداية إلى أنّ موضوع وحدةِ المجتمع ومن ثمّ الشعب العراقي، وكذلك وحدة المجتمعات ومن ثمّ الشعوب العربيّة، لا يأتي من وجهة النظرِ السياسيّة، بل يتأتّى من المنظورِ السائد والطاغي الذي أسّسَتْهُ وبلورتْه وعمّقتْه الأعراف والتقاليد والأفكارُ المتجانسة الإنسيابيّة على أرضِ الواقع وعبر حقبٍ زمنيّةٍ موغلة في القِدَم، بمجمَلِ النسيج العام لتفاصيل حياة ورؤية الأفراد المتجمّعة كالروافد لتصبّ في مجرى تشكيل تلك المجتمعات، وتحديد ملامحها المشترَكة، كتُراثٍ وهويّة.
لننطلقَ من خطّ البداية في متابعةٍ إستشرافيّة غائرة في التنوّعِ الجغرافي لعالمِنا العربي، من المشرق إلى المغرب، ومن الجنوبِ العربي السوداني صعوداً إلى الإسكندرونة في الشمالِ العربي السوري، سنجد خلال مثل هذه الرحلة رغم الأسلاكِ الشائكة الفاصلة بين الحدود، ونقاط التفتيش الجمركي بين بلدٍ عربيٍّ وآخر، وكأنّنا في مجتمعٍ واحد متشابه العادات والتقاليد والأفكار، ستجد ترحيبَ الأخِ المتوهِّج بحرارةِ الحنين، بأخيه المُفارِق، لن تُسألَ غيرَ سؤالٍ واحد، من أيّ البلدِ الشقيق قدمتَ يا أخا العرب؟ وربّما لن تُستفتَحَ حتّى بمثل هكذا سؤال إن اكتشفَ فيك الآخر عبر اللهجة، أنّك من بلدٍ محدَّدٍ بعينه، مستنداً إلى جملة خصائص مشترَكة تشي بملامح كلّ بلدٍ عربيّ يتعارف عليها جميعُ أبناءِ الأمّةِ العربيّة، كذلك لن تُسْألَ عن خصوصيّاتِكَ سواءً في المعتقَد أو الإنحدار العشائري أو الطائفي، هذه الوافدة مع المخطَّطِ الجهنّمي الذي يحاولُ – يائساً في النهاية – أن ينخرَ في الجسدِ العربيّ، ويفتّت صخرةَ وحدتِهِ الفطريّة القائمة منذ مئاتِ القرون، والمتكوِّنة تكويناً عصيّاً على الإختراق.
إنّ هذا المثال إن كان يصحُّ في مطلَقِ الأحوال وضمن وشائج القاعدة الشعبيّة العريضة للمجتمعاتِ العربيّة، فكيف بمجتمعِ النخبة؟ إنّ نظرةً سريعةً وخاطفة إلى واحدةٍ من منجَزات الفكرِ الإبداعيِّ العربيّ، تجعلُنا نقفُ متطلِّعينَ منذهلين بإعجابٍ منقطع النظير، إلى تلك المنجزات التي مدّتْ جذورَها متغلغِلَةً في التكوين السامي لوحدةِ الفكر والذائقة العربيّة، لنفتحَ ديوانَ الشِعرِ العربيّ ونتصفّح تجلِّياتِه الجماليّة والفكريّة والتربويّة، ونرى اتّساعَ الرقعة الجغرافيّة التي انطلقَ منها الشعراءُ العرب، ما الذي جعلَ من أورادِ أشعارِهم تنمو وتطلع وتزهر وكأنّها من أرضِ بستانٍ واحدة، هي بستان الأرض العربيّة، لن تجدَ اختلافاً في الثيمة الشِعريّة والبناء الشِعريّ بين شاعرٍ وآخَر، ولا في القيمة الجماليّة والتربويّة العالية، رغم تعدّد المواضيع وتنوّع الأفكار، على أنّها تصبّ في مجرىً واحدٍ هو ديوان الشِعرِ العربيّ، أحد القناديل اللواتي يتجمّع حولها الشملُ العربيّ.
فذلك امرئ القيس من صحراءِ الجزيرة العربيّة، وهذا أبو القاسم الشابّي من تونس، وذلكما بشارة الخوري وجورج جرداق من لبنان، وأولئك..محمّد بنيس من المغرب، والفيتوري ويوسف المحبوب من السودان، وأبو تمّام وأبو فراس الحمداني ومحمّد الماغوط ونزار قبّاني من سوريا، وحافظ ابراهيم وأحمد شوقي وابراهيم ناجي وأحمد رامي ومعين بسيسو وأمل دنقل وبنت الشاطئ من مصر، والجواهري والبياتي والسيّاب ونازك الملائكة من العراق، ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وفدوى طوقان من فلسطين، وغيرهم بالألوف، مالذي جمعَ هؤلاء الطالعين من الأراضي الممتدّة على المساحة الشاسعة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي؟ أوَليستْ هي وحدة اللغة، ووحدة العادات والتقاليد وتشابه الأعراف واندماج الإثنيّات حتّى لتخالهم جميعاً وكأنّهم من أسرةٍ واحدة؟
من المفارَقات الدالّة على اكتناز الروح العربيّة لوحدةِ المشاعر وفطريّة الإلفة والمودّة المتبادَلة – وهذا مايتّضح بالدليلِ القاطع والتجربة الحيّة الملموسة في مغترَبِنا الأميركيّ – أنّكَ كعراقي حين تلتقي اليمني أو اللبناني أو الفلسطيني أو التونسي أو المصري أو السوداني أو السوري أو الخليجي أو المغربي أو أيِّ قادمٍ من أيِّ بلدٍ عربيٍّ آخر، لا ينظر إليك سوى أنّك عراقيٌّ وحسب، لا يستأثر اهتمامه من أين تحدّرتَ من بقاعِ العراق أوبأيِّ عقيدةٍ تُدين أولأيِّ حزبٍ تنتمي أو لأيّة جهةٍ سياسيّةٍ تتبع أو تميلُ إليها وإلى برنامجِها، إنّه يعتبر ذلك تدخُّلاً من المُخحِلِ التطرُّق إليه، وتبادله أنت كذلك، هذا التصرُّف، إذ يعتقدُ كلٌّ منهما أنّ ذلك من الأمور الشخصيّة التي من المُعيب تناولها، والتي لا تجنح إليها آدابُ اللياقة العربيّة، فأنتَ عراقيٌّ وكفى، فالعراقيّون إذن واحد، كأيِّ عنصرٍ من العناصر في التحليل الفيزيائيّ أو الكيميائيّ، وينطبق ذلك تماماً على جميعِ أبناء الجنسِ العربيّ من المحيط إلى الخليج.
إنّا لَقَوْمٌ أبتْ أخلاقُنــا شرفــاً أنْ نبتدي بالأذى من ليس يُؤذينا
بيضٌ صنائعُنا سودٌ وقائعُنا خُضْرٌ مرابعُنــــــا حُمْرٌ مواضينــــا
يتبع في العدد القادم
Leave a Reply