مريم شهاب
منذ سنوات طويلة جداً، حين حط الرحال بنا هنا في هذه البلاد الباردة، لم يكن هناك إذاعات عربية وقنوات تلفزيونية ولا وسائل إلكترونية، بالكاد كانت هناك بعض الجرائد والمجلات التي تأتي من القاهرة وبيروت بعد أسبوعين من صدورها.
كان تعلّم الإنكليزية إجباري للتواصل والتفاهم مع مجتمع غريب بعاداته وثقافاته. كنت أسمع أن مشاهدة التلفزيون وخاصة البرامج الكرتونية للأولاد وهي وسيلة ناجحة لتعلم مبادئ الإنكليزية كونها كلماتها بسيطة وغير معقدة ومكرّرة.
معرفتي القليلة باللغة الفرنسية ساعدتني جداً حين انتسبت إلى برنامج ثنائي اللغة للبالغين في ثانويّة فوردسون ليلاً. بطبعي أنا لا أحب مشاهدة التلفزيون، فأنا مدمنة على الاستماع للراديو الذي افتقدت برامجه هنا ورحت أقلّب موجات الراديو على المحطات المحلية، حتى جذب انتباهي برنامج صباحي بين التاسعة صباحاً والحادية عشرة، كان يبدأ بسؤال بسيط وجذّاب: «إذا كان لديك أي سؤال يتعلّق بالمشاكل المنزلية، إذن، إسأل جارك!».
تعلّمت من الاستماع لذلك الإذاعي البارع، بوب أليسون، وحواراته مع المستمعين والمستمعات ما لم أتعلّمه من الكتب ومن صفوف المدرسة. معظم الاتصالات كانت حول أعطال في البيت وكيفية إصلاحها، ووصفات أطباق الطعام، والطريقة المثلى لإزالة البقع عن الثياب والسجاد، كيفية العناية بالحيوانات الأليفة، الكتب والأفلام الشعبية وغيرها من الأسئلة التي كان يجيب عليها المستمعون الذين لديهم خبرة في أمر قد يفيدون به الآخرين. هكذا، بكل بساطة، وبدون فذلكة.
في أحيان كثيرة كان بوب يستضيف محاسباً عتيقاً في تعبئة الضرائب، أو خبيراً في الطريقة المثلى لاستثمار الأموال وادّخارها، وكل يوم جمعة كان يستضيف مقاولاً خبيراً بصيانة البيوت من الداخل والخارج لإرشاد المستمعين حول كيفية إصلاح مشاكل المنازل وما أكثرها. أيضاً، لن أنسى الخبير في الحدائق والنباتات المنزلية وإرشاداته المفيدة.
واظبت على الاستماع إلى بوب الذي كان ينطق كلماته ببساطة ووضوح وصدق مع النفس ومع الآخرين، وكان صبوراً إلى أقصى الحدود خلال استماعه للمتصلين مهما صعبت لهجاتهم. بكل تواضع واهتمام، كان ينصت لسؤال المستمع مهما كان بسيطاً أو طويلاً وأحياناً مستهجناً… كل ذلك جعلني أحب بوب الذي ذكرني بمذيعي إذاعة لندن، وجيران الضيعة ولهفة العائلة.
تعلمت منه نطق الكلمات. حتى وهو يذيع الإعلانات، كان يقرأها برصانة ونبرة أمل وصفاء دون ركاكة أو استرخاص.
الأسبوع الماضي رحل السيّد بوب أليسون عن 87 عاماً قضى منها 58 سنة متواصلة على الهواء عبر برنامجه الأشهر في مترو ديترويت «إسأل جارك!»، لم يتعرض قط إلى مسائل السياسة أو الدين أو الأعراق. كان إنساناً بكل معنى الإنسانية، التقيت به مرّة واحدة وكنت أتصل به مراراً وأشكره على برنامجه اللطيف وأشكره لصموده كل هذه السنوات على الأثير، وأشكره على ثقافته الواسعة من خلال قراءاته لبعض الأخبار والقصص الإيجابية.
هناك أناس كثيرون تشعر كأنك تعرفهم، أو تتمنى لو أنك تعرفت عليهم. معرفة بوب أليسون والاستماع إليه ساعتين لمدة خمسة أيام أسبوعياً، كانت تكفي وتفيض. كنت أبدأ به نهاري فأشعر بأن هذا العالم ليس جامداً، وأن الرؤوس الممتلئة تميل إلى الانحناء تواضعاً.
Leave a Reply