إنه المبدع والمكافح والعصامي، شهاب حرازي، صاحب «المطبعة العربية» في ديربورن، ولست أدري هل تعلّم من فن الطباعة كيفية أن يطبع محبته في قلوب محيطيه ومراجعيه، أم أن طبعه كذلك؟
فجأة، عاد شهاب، الأخ والصديق والابن إلى التراب باكراً قبل أن يستكمل طموحاته المهنية التي لطالما حلم بتحقيقها، بإبداعاته وعمله الدؤوب، حيث كان دائم البحث عن كل جديد ليطوّر بواسطته عمله، حتى أوصله هذا التوجه إلى الموافقة على تطبيق تجربة جديدة في معالجة السرطان على نفسه.
كان مفعماً بالإيمان والتسليم لحكم القدر، عندما زرته في المطبعة قبل أشهر لأطلب منه خدمة خاصة. وجدته كعادته مبتسماً ومتفائلاً يتنقل في أرجاء المكان لينجز طلبيات الزبائن، حتى ظننت أنه قد تعافى من ذلك المرض الخبيث الذي داهمه. لم يشعرني للحظة بأنه يعاني من أية متاعب أو ألم جسدي أو نفسي، لكن لعلمي بوضعه الصحي، سألته عن مرضه، فأجابني مبتسماً «لقد بلغ المرحلة الرابعة، لكنّ هناك أبحاث جديدة تبعث على التفاؤل حسب ادعاء الأطباء، وقد وافقت على تجربتها دون تردد»، كانت ملامحه توحي بالطمأنينة والتفاؤل، كما كان يرفض الاستسلام للمرض والتخاذل أمامه، ولأنه كان يحن إلى تراب وطنه الأم فقد أفصح لي بأنه يحلم بزيارته حال شفائه من المرض. أرض اليمن التي عشقها والتي بقيت تسري في عروقه وشرايينه كما لو كانت حبيبته التي يمنّي الفؤاد برؤيتها، غير أن القدر لم يمهله الفرصة لتحقيق حلمه فأرداه وهو في ريعان الشباب وفي قمة عطائه وعنفوانه. القدر لم يمنحه سوى فرصة واحدة تلخصت برؤية ابنه قبل مغادرة هذه الدنيا، وكان قد بذل الغالي والنفيس من أجل قدومه من بلده إلى حيث يقطن في ديربورن.
وصل الابن بعد عناء طويل وضمه إلى صدره ولم تدم السعادة سوى أسبوعين حيث فارق الحياة وتركه يصارع الأحزان وحيداً.
كانت وفاته صدمة لكل من عرفه وجرحاً غائراً في قلوب محبيه وأصدقائه. بكوه بكل حرقة وحسرة حتى خيل لي أنّ حتى السماء بكت لرحيله، ويشهد بذلك مأتمه الذي كان مهرجاناً حزيناً غطى أرض المقبرة.
إن الحرص على نسج العلاقة الطيبة مع الآخرين من أعظم النعم على الإنسان، والصداقة المخلصة هي الوردة الوحيدة التي لا تحيطها الأشواك، فالصداقة ترتقي إلى أسمى العلاقات الإنسانية بين بني البشر. حيث من ثمراتها إسداء النصيحة والوفاء والثقة المتبادلة ومراعاة المشاعر والتعاطف أمام انبراء الأزمات، لذلك يقال «الصديق لوقت الضيق».
وداعاً يا صديقي، افتقدناك جسداً يا شهاب، لكن روحك النقية ستبقى خالدة بيننا شامخة نعتز بها ولن يفارقنا طيفك ولا عزة نفسك الأبية. نم قرير العين أيها الطيب الوادع الوديع، جنان الخلد زينت لك.
هالكون بيْدَر عم يغربلنا
ومركب سنين العمر ناقلنا
معقول نوصل عالقبر بكّير
ومعقول ربّ الكون يمهلنا
هالعمر كلّو كومة حزازير
وغير الخلقنا ما بيسألنا
وع قد ما نحلّق معو ونطير
في تراب ناطرنا ع وجّو تراب
تيردنا ونرجع لأوّلنا
Leave a Reply