صيف العام 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان واحتلت أول عاصمة عربية. كنا يومها نتحرق لسماع خبر أو متابعة التطورات، وكان الإعلام الأميركي كعادته، التي لم يغّيرها بعد، ينقل الأخبار بعيون إسرائيل ولسانها. لم تغير الحقائق شيئاً من التحيز الإعلامي الاميركي الكامل لإسرائيل.. آلاف الشهداء، عشرات آلاف الجرحى والمعتقلين والمشردين ودمار أينما حل جيش الإحتلال وليس في الصحف والمحطات الأميركية إلا الرواية الإسرائيلية المحفوفة بدعم إعلامي عام.
الزميل أسامة السبلاني يضع الورود بجانب جثمان كاي. |
كانت تلك الصورة لا تعكس مبادئ أميركا في شيء، وكان السؤال المنطقي ماذا يمكن أن نفعل لإيصال صوت الحقيقة الى المواطن الأميركي الخاضع تماماً لتأثير الماكينة الإعلامية المنحازة والهائلة؟ هذا السؤال غيّر، في حينه، حياة ثلاثة أشخاص جمعتهم الصدفة والصداقة فقط.
كنت في حينها نائباً لرئيس شركة تصدير واستيراد معدات هندسية (مجال تخصصي الجامعي) دون أية خبرة في الإعلام والصحافة، وكان صديقي الصحافي صبحي غندور، الواصل حديثاً من لبنان دون المام باللغة الإنكليزية أو معرفة بالمجتمع الأميركي، وكانت رئيسة الممرضات في احدى اجنحة مستشفى سان جون في ديترويت ماريانا كاي السبلاني، التي تجمعني بها علاقة عائلية ثالثتنا.
حماسنا لإعلاء صوت الحقيقة وغضبنا من الإنحياز الإعلامي الأميركي الكامل لإسرائيل ترجمناه في قرار إصدار صحيفة عربية أميركية مستقلة. ولكن تنفيذ القرار لم يكن أمراً سهلاً كما اتخاذه.
كان علينا أن نتعلم يوماً بيوم تفاصيل مهنة تكتنه البحث عن المتاعب لكنها طالما لبثت تجذبنا اليها، فتركت وظيفتي للتفرغ لها ولم تتأخر كاي في اللحاق بي لتصبح «صدى الوطن» خلال فترة وجيزة، أعقبت مرحلة التأسيس المكلفة والطويلة، ركناً من أركان الجالية الأساسية ومعلماً من معالم أسرتها الكبيرة.
كانت تجربة «صدى الوطن» بالنسبة للزميلة كاي تنطوي على عالم متداخل يضج بالمعرفة. ففي الصحيفة اكتنزت كاي كمّاً معرفياً غزيراً عن الثقافة العربية التي عرفت عنها الشيء اليسير من خلال علاقتنا الشخصية. وازدادت كاي اعجاباً بالإسلام وهي تتعرف اليه كدين تسامح وتواصل ومحبة لا يجد من يقدم صورة حقيقية عنه الى مجتمع متعطش الى المزيد من التعرف على تفاصيله. والأبرز كانت صدمتها ازاء مأساة الشعب الفلسطيني المنكوب والمشرد. كانت ترى في القضية الفلسطينية قضية حق مطلق مقابل عدوان سافر وإغتصاب مطلق. لم تقف كاي عند الحد العاطفي في النظر الى القضية الفلسطينية، كانت واثقة من أن الشعب الأميركي حين يعرف الحقيقة لن يقبل بالظلم وكانت ترى أن الطريق الى ذلك يمر من خلال تفاعل الجالية مع قضاياها وعدم الإكتفاء بالشؤون المعيشية، وقررت أن تحول ذلك الى ترجمة عملية اعتبرتها من أولويات مهمتها في الحياة.
فشكّلت «صدى الوطن» الجزء الأكبر من كيان هذه المرأة الأميركية التي ولدت ونشأت في ديترويت ولم تسافر أبعد من منطقة بيفيردام الريفية في ولاية كنتاكي التي لم كانت تقطنها جدتها وكانت كاي تزورها هناك بين الحين والآخر.
أضحت كاي وجهاً مألوفاً لـ«صدى الوطن». وكنا كلما أو غلنا في تجربتنا كلما ابتعدنا عن منطقة الأمان المالي والمعيشي، فالمصاريف ازدادت باضطرادً، ومعها ازدادت الإلتزامات، أما الموارد المالية القليلة فكانت تفي بالحد الأدنى وكان الأمل المعقود على الجالية في دعم مسيرة الصحيفة قد بدأ يتبخر مع مرور اعوام قليلة على الإنطلاقة، لتصبح «صدى الوطن» هدفاً لمعارك وهمية أراد أصحابها تغطية انسحاب أصحاب الوعود الوردية الذين ربما ظنوا، أن مهمة الصحيفة ستكون الترويج لهم وخوض معاركهم الشخصية بالوكالة.. فكان علينا أن نواجه مشاكل وعوائق اضافية ممن افترضنا أنهم سيسارعون الى دعم أي مشروع في خدمة قضايا الجالية كـ«صدى الوطن».
ورغم كل ذلك، ورغم عدم قدرتنا على تحصيل ما يمكن من تأمين استمرارية «صدى الوطن»، كانت كاي دائمة التفاؤل والأشدّ اصراراً على مواصلة مسيرة نيل الحقوق وقول الحقيقة.
لم تكن متاعب المهنة العائق الوحيد في طريقنا. ففي الذكرى السنوية الثانية لصدور «صدى الوطن» غادرنا المكتب الذي انطلقت منه «صد الوطن» على شارع ميشيغن آفنيو في ديربورن عند الساعة الثانية فجراً. كنت بإنتظار كاي كالعادة في السيارة المركونة في الجانب المقابل للمبنى، لتوصيل «الماكيت» (الصفحات) الى المطبعة. وفي طريقها الى السيارة صدمها سائق مخمور يقود سيارته بسرعة جنونية فقذفها عدة أمتار وتطايرت أوراق «الماكيت» من يدها قبل أن يغمى عليها.
عندما افاقت بعد وصولها الى الطوارئ في مستشفى «أوكوود» كان سؤالها الأول عن حالة صفحات الجريدة وعندما عرفت أننا جمعناها طلبت مني أن أتوجه على الفور الى المطبعة لأن «صدى الوطن» يجب أن تصدر في موعدها.
كان ذلك الحادث المؤسف بداية رحلة طويلة مع المرض بالنسبة لكاي. فبعد معالجة كاي من إصاباتها البالغة وخلال مرحلة شفائها من الحادث اكتشف الأطباء ورماً في رئتها اليمنى أفضى الى ازالة إحدى رئتيها بالكامل لمنع انتشار السرطان قبل أن تخضع لجلسات العلاج الكيميائي التي أقعدتها لعدة اسابيع.
رغم مرضها، لم تكتف كاي في تلك الفترة بتحرير الأخبار وكتابة التعليقات بل كانت تصر على مراجعة الصحيفة برمتها قبل التوجه الى المطبعة.
لم يبارحها المرض بعد ذلك، فلم تكد تشفى من سرطان الرئة حتى ظهر ورم آخر في الدماغ. وفي مستشفى «مايو كلينك» في مينيسوتا خضعت كاي لعملية استئصال دقيقة استثنائية استمرت 22 ساعة، فكان سؤالها الأول عندما فتحت عينيها هل أرسلت الجريدة الى المطبعة قبل أن تأتي؟
هكذا كانت كاي في التزامها. دائما كان تفانيها يشعرني بالخجل.
مرت «صدى الوطن» إبان حرب الخليج الأولى بضائقة مالية خانقة فتوجب علينا حينها أن نبحث عن مصادر جديدة لتوفير متطلبات العيش. فعملت كاي على دمج معرفتها المكتسبة من تجربة «صدى الوطن» مع مجال تخصصها الطبي وانشأت شركة صغيرة لتدريب العاملين في المجال الصحي على كيفية التعامل بحساسية مع متطلبات المرضى العرب والمسلمين ثقافياً ودينياً، وكان لي أن أعمل في العلاقات العامة في المجلس العربي الأميركي والكلداني (أي سي سي) لتوفير الدخل الضروري لإبقاء «صدى الوطن» قيد الاصدار.
بعد الهجمات الإرهابية في 11 ايلول 2001 ساهمت كاي في تأسيس فرع لمجلس العلاقات الأميركية الإسلامية (كير) في ميشيغن لتوثيق ما يتعرض له ابناء الجالية من تضييق أو تمييز وللتواصل مع مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة لتخفيف وطأة التداعيات عليهم، كما ساهمت في تأسيس مطبوعة اسلامية باللغة الإنكليزية لتوفير منبر اضافي للشباب المسلم بغية التواصل مع محيطه. كما اصدرت كتاباً تعريفياً عن المتطلبات الثقافية والدينية لرعاية المرضى العرب والمسلمين، فضلاً عن اقامة الندوات والقاء المحاضرات في الموضوع نفسه.
قبل سنتين عاودها المرض الخبيث مجدداً. لم يكن لديها الكثير من القدرة على المقاومة بعد توالي الجراحات والمعاناة. أقعدها المرض هذه المرة لكنه لم يعطلها أبداً. كانت حتى في أيامها الأخيرة، حتى وهي تعرف تماماً أنها تودع هذه الدنيا، مصرة على التفاؤل. لم تخسر شجاعتها أو التزامها ولم تبدر منها ولو إشارة واحدة عن أي أسى أو ندم على خياراتها التي غيرت حياتها وغيرت معها مسيرة العرب الأميركيين.
كانت، كعادتها، راضية وتحيا سلاماً شفيفاً مع نفسها ومحيطها.
مسيرة «صدى الوطن» التي تدخل عامها التاسع والعشرين، شهدت الكثير من الوجوه. زملاء واصدقاء وكتاب ومراسلين وداعمين، لم يترك التعب منهم الكثير، وكانت قلة الموارد وكثرة المهمات تبعدهم تباعاً. وحدها كاي لم تبتعد عن المهمة التي التزمت بها. كانت تعمل بصمت وشجاعة وتفان. كانت في منتهى اللياقة وموضع إعجاب وإحترام وتقدير الآخرين، فحتى في رحيلها المبكر انتظرتنا حتى فراغنا من إحتفال رأس السنة لتسلّم روحها الطاهرة الى بارئها مساء اليوم الأول من السنة الجديدة. هكذا كانت في حياتها وهكذا سنحفظ ذكراها.
وداعاً يا رفيقة الدرب..
وداعاً يا زميلة الكفاح..
وداعاً يا أعز الأصدقاء..
وستبقين ماثلةً نصب العين حيةً في الضمير بكل مآثرك النبيلة في الحياة.
Leave a Reply