تتحكم منظومة الفساد والهدر منذ سنوات طويلة بمفاصل الدولة اللبنانية، مستنزفة الخزينة العامة على حساب حقوق المواطن العادي الذي ترهقه أعباء الوضع الاقتصادي الصعب، وتوجعه الزيادات الضريبية التي تفرض عليه من حين إلى آخر، وتحديداً كلما احتاجت الدولة لدفعة على الحساب، بغية تخفيف عجز موازنتها أو تأمين مداخيل لإنفاق جديد، من نوع تغطية كلفة سلسلة الرتب والرواتب على سبيل المثال.
وتحمي هذه المنظومة المترامية الأطراف، بل تتشارك معها في «السراء والضراء»، جهات سياسية تملك من النفوذ والسلطة ما يسمح لها باحتكار المشاريع والموارد، وفق توزيع مدروس للأدوار والأرباح، ما أدى إلى تمدد «أخطبوط» الفساد في كل الاتجاهات، من دون حسيب ولا رقيب، علماً أن هذه الظاهرة تفاقمت خلال الأعوام القليلة الماضية تحت وطأة الشغور الرئاسي والشلل المؤسساتي اللذين شكلا بيئة مناسبة لـ«ازدهار» كل أنواع السرقة للمال العام.
وعليه، باتت أولوية مكافحة الفساد هي الأشد إلحاحاً على العهد المصبوغ باللون البرتقالي، خصوصاً أن العماد ميشال عون وصل إلى رئاسة الجمهورية أساساً تحت شعار الإصلاح والتغيير، ما يضعه أمام اختبار إثبات المصداقية، وهو اختبار صعب ستؤثر نتائجه بقوة على صورة العهد في المرحلة المقبلة.
وفي الانتظار، يقول وزير الدولة لشؤون مكافحة الفساد نقولا تويني لـ«صدى الوطن» إنه منذ تعيينه في هذا المنصب المستحدث، وهو يعمل ليلاً ونهاراً من أجل المساهمة في استئصال الفساد من جسم الدولة اللبنانية، برغم تواضع الإمكانيات الممنوحة له، لافتا الانتباه إلى أن كل ما أعطي له رسمياً يقتصر على مكتب في وسط بيروت، هو الاكثر تواضعا قياساً إلى المكاتب التي مُنحت لوزراء دولة آخرين يجاورونه في المبنى ذاته، موضحاً أنه بادر، على نفقته الشخصية، إلى تأمين الحد الأدنى من الاحتياجات اللوجستية التي تتطلبها مهمة بحجم مكافحة الفساد.
مصدر إزعاج
يشير تويني– المحسوب على عون– إلى أن الكثيرين في مؤسسات ومواقع رسمية أصبحوا يتحسسون منه ويجدون فيه صورة ناظر المدرسة، بسبب إصراره على التدقيق في ملفات ومشاريع كانت فيما مضى متفلتة من الرقابة، موضحاً أن «البعض بلغ به الانزعاج حد اتهامي بانني اتصرف على طريقة المخابرات السورية عندما كانت موجودة في لبنان»، «بينما الحقيقة هي انني لا أقوم سوى بواجبي في الاستفسار حول سير بعض الأمور في إدارات الدولة وأجهزتها، سعياً إلى وقف مزاريب الهدر والفساد التي استنزفت الخزينة العامة على مدى أعوام طويلة من التسيب».
غطاء سياسي
ويلفت تويني الانتباه إلى أن مجلس النواب أقرّ مؤخراً قانوناً يسمح لأي كان بالوصول إلى المعلومات والاطلاع عليها، في اطار محاولة تعميم الشفافية ومواجهة الفساد، متسائلاً: إذا كان المواطن العادي بات يملك هذا الحق، فهل يجوز أن يُمنع عن الوزارة المختصة؟
ويؤكد تويني أنه لن يتأثر بالضغوط المتنوعة التي يتعرض لها، وأنه سيكمل الدور المناط به، مدعوماً من رئيس الجمهورية بشكل أساسي، مشدداً على أن «الرئيس ميشال عون يغطيني سياسياً ودستورياً وهو طلب مني المضي في عملي حتى النهاية وعدم التأثر بالتشويش الذي يصدر من هنا أو هناك».
ويضيف: انا مصمم على خوض هذا التحدي برغم صعوبته، وما يساعدني انني املك قدرات مالية جيدة، استطعت تكوينها خلال مسيرتي المهنية الحافلة في عالم الاعمال، وبالتالي انا محصّن ولدي المناعة الكافية ولست بحاجة إلى أحد أو إلى أي شيء، وهذا ما يعزز موقعي في المواجهة التي أخوضها ضد الفساد.
ويشير إلى أهمية التركيز على تجفيف منابع الفساد والهدر وعدم الاكتفاء بمعالجة العوارض والنتائج، موضحاً في هذا السياق أنه وضع مشروع آلية مرحلية لضبط قواعد التلزيمات والمناقصات التي تجريها الوزارات والمؤسسات العامة والإدارات الرسمية والبلديات، باعتبار أن هذا الملف هو أحد أبرز مصادر هدر المال العام والعبث به، وإذا استطعنا أن نعالج هذا الخلل المزمن جذرياً نكون قد حققنا انجازاً نوعياً وقطعنا شوطاً كبيراً على طريق تحقيق الإصلاح الذي يتطلع إليه اللبنانيون.
ويوضح أن الآلية التي اقترحها تسمح بتأمين المساواة والمنافسة بين أصحاب العروض، وتحقق الشفافية والنزاهة في العقود التي تبرمها أجهزة الدولة على اختلافها، لافتاً الانتباه إلى أنه سيعرض هذا المشروع فيما بعد على مجلس الوزراء، وآملاً في أن يتم إقراره ليتحول إلى قرار ملزم ونافذ، من شأنه أن ينظم عقد الصفقات العمومية ويضبط إيقاعها، في هذه المرحلة، إلى حين إنجاز مجلس النواب التشريعات الضرورية والنهائية المتعلقة بإدارة المناقصات.
ويكشف تويني عن أن وزارته تتحرك على خطوط عدة في وقت واحد، مشيراً إلى أن الملفات التي تخضع للمراجعة والتدقيق حالياً، تشمل:
– عقود معالجة النفايات في منطقتي كسروان والشوف
– مكامن الهدر في كازينو لبنان
– مناقصة الميكانيك
– تلزيم المنطقة الحرة في مطار بيروت
– حسابات هيئة مرفأ بيروت
– التهرب الجمركي في المرفأ
– الاعفاءات الجمركية لمجموعة من سيارات الـ«فيراري»
– مشروع لمجلس الانماء والإعمار بتشييد سجن مجدليا.
Leave a Reply