ثماني سنوات أوصل القناة القطرية الى قمتها.. فحضيضها
خاص “صدى الوطن”
منذ تأسيسها عام ١٩٩٦ شكلت قناة “الجزيرة” القطرية منعطفاً هاماً في الوعي العربي لتبدأ مسيرة مكللة بالنجاحات. فقد صنعت القناة القطرية صدقيتها في الشارع العربي من خلال التغطية المتميّزة لاجتياح العراق، ثمّ “حرب تموز”، والعدوان الإسرائيلي على غزة، وصولاً إلى الثورتين التونسية والمصرية حيث بلغت القناة قمة نجاحها ومجدها. ولكن بعد اندلاع “ثورة البحرين” والازدواجية الفاضحة التي تعاطت بها القناة مع تطوراتها سرعان ما جعلت القناة التي يديرها الفلسطيني وضاح خنفر تخسر مصداقيتها. وجاءت “الثورة السورية” والتغطية غير الموضوعية لأحداثها، والتي وصلت الى حد الفبركات والتحريض العلني، لتثير غضب شريحة واسعة من جماهير القناة لتفقد بذلك “الجزيرة” ثقة معظم الشارع العربي وتنحصر شعبيتها بين “التيارات الإخوانية” وقواعدها.
وأمام الانحدار السريع في مستوى القناة وصدقيتها التي وصلت الى الحضيض كان لا بد من كبش فداء.. فلم يجد المسؤولون عن المحطة سوى المدير العام وضاح خنفر (1968) المعروف بخلفيته “الإخوانية” بامتياز، والذي جاءت وثائق “ويكليكيس”، لتُفقده الكثير من صدقيته في الشارع العربي.
فبعد أيام على تسريبات “ويكيليكس” التي طاولته، “استقال” خنفر من منصبه كمدير عام للمحطة القطرية، تاركاً علامات استفهام كثيرة. هل استقال أم استقيل؟ وهل يعلن رحيله نهاية شهر العسل بين قطر والإخوان المسلمين؟
وكانت وثيقة مسربة عبر موقع “ويكيليكس” وتاريخها: 20/10/2005 أشارت الى تعاون وثيق بين خنفر والسلطات الاميركية حيث تضمن التعاون ازالة مواد تضر بالصورة والجيش الاميركي في العراق.
وبرحيل وضاح خنفر عن ادارة “الجزيرة” وتعيين مسؤول قطري مكانه يفقد التنظيم الدولي للإخوان المسلمين مركزاً مهماً ساعدهم في بسط سلطة إعلامية على الشارع العربي عبر استراتيجيات مختلفة تضمنت الترويج لأفكار الإخوان وتهييج الشارع العربي.
ولكن التضحية بخنفر الذي ترك منصبه الأسبوع الماضي بعد أن أقاله مجلس إدارة شبكة “الجزيرة” وعين بدلاً عنه الشيخ أحمد بن جاسم آل ثاني، قد لا تكون كافية لانتشال القناة التي تعاني من مصاعب عديدة بعد أن فقدت الكثير من وجوهها الرائدة.
فخلال ثماني سنوات، من إدارة خنفر، نجح الرجل في إحكام القبضة على كل المفاصل في المحطة، فعيّن مقرّبين منه في أغلب الإدارات، وهو ما جعل مجموعة كبيرة من العاملين في الفضائية يعبّرون عن امتعاضهم من تهميشهم على حساب “إسلاميين” مقرّبين من المدير العام. وأدى ذلك إلى استقالات متتالية أبرزها للمذيعات الأربع (جمانة نمور، ولينا زهر الدين، ونوفر عفلي، ولونا الشبل)، ثمّ غسان بن جدو، وغيرهم. ونجح خنفر كذلك في إبعاد مجموعة من مديري المكاتب في العواصم العالمية مثل ميشال الكيك (باريس)، وأكرم خزام (موسكو)… واستبدالهم بآخرين مقربين فكرياً وإيديولوجياً من توجّهاته.
وجاءت سياسيات وأخطاء خنفر لتجعل قرار التخلّي عن خنفر سهلاً على الإدارة القطرية وخصوصاً بعد ظهور وثائق “ويكيليكس” وازدواجية التعاطي مع التطورات العربية التي كانت تتطابق مع الموقف الرسمي القطري.
فقد تشوهت صورة “الجزيرة” في أعين المشاهد العربي لاسيما بعد أن اعتمدت شعار “التغطية مستمرة” بدل شعار “الرأي والرأي الآخر”، الذي برر في العقل العربي التعاطي الإعلامي مع العدو الصهيوني بعد أن كان ذلك من المحرمات. فشعار “التغطية مستمرة” شكل منصة تحريضية تتجاهل الرأي الآخر، بعد أن ألغت المحطة برامجها الحوارية الحقيقية تاركة الهواء مفتوحاً لشهود عيان وأفلام مصورة لا تملك الحد الأدنى من المصداقية لتبرر من خلالها المطالبات بتدخلات أجنبية.
لكن “الرجل الجديد” الذي سيحل مكان خنفر لا يبدو قادراً على أن يعيد القناة بريقها السابق ولاسيما انه ينتمي الى العائلة القطرية المالكة التي أصبحت طرفاً فاقعاً في الصراعات العربية-العربية بعد أن لعبت دوراً وسطياً في الأعوام الماضية.
فالمدير العام الجديد، أحمد بن جاسم بن محمد آل ثاني. الرجل الآتي من عالم الاقتصاد، عمل مديراً لشركة “قطر غاز”، ولا يكاد يعرفه العاملون في المحطة. إلا أنّ مجرّد تعيينه في هذا المنصب يفتح الباب واسعاً أمام استنتاجات عدة. أوّلها أن “الجزيرة” فقدت إحدى أبرز نقاط قوتها، مع تعيينها مديراً من عائلة آل ثاني. المحطة التي تغنّت طويلاً باستقلاليتها، وبمديرها الفلسطيني، تعود اليوم محطّة نظام بالمعنى الكامل. وها هو أحد أعضاء العائلة المالكة يُعيّن مديراً عاماً لأكبر فضائية عربية.
“الشيخ البترولي”، كما بات لقبه على مواقع التواصل الاجتماعي، قد ينجح في الجانب الإداري، لكنّ لا يعرف بعد من سيدير التحرير من الآن فصاعداً، ويحدد سياسة المحطّة، وهنا سيترك خنفر نقصاً واضحاً، هو الملمّ بخفايا الإعلام والسياسة، وقد كان معروفاً عنه اطلاعه على كل شاردة وواردة في “الجزيرة”. يبقى السؤال الأهم: هل سيكون هناك تحوّل في السياسة التحريرية لـ”الجزيرة”؟ ربّما كان من السابق لأوانه الدخول في هذا النوع من التكهّنات، وإن كان يجري الهمس في كواليس المحطّة، كما نقل إعلامي بارز من داخلها، عن “تغيير في سياسة قطر إزاء الملف السوري، ما جعل من وضّاح خنفر كبش المحرقة”.
استقال أم استقيل
واشارت مصادر صحفية إلى ان الإقالة جاءت بتوجيه من أمير قطر نفسه الذي طالب بالتحقيق في صحة المعلومات التي نشرت في موقع “ويكليكس” عن تعاون بين المدير العام للجزيرة السابق والادارة الاميركية.
لكن معلومات من داخل المحطة تشير إلى أن الأجواء كانت مهيأة أصلاً لإقالة خنفر بعد دخوله في صراع مع المفكر الفلسطيني عزمي بشارة، وأن المسؤولين القطريين تذرعوا بالوثائق المسربة ليحسموا الصراع لصالح بشارة الذي يتمتع بدعم قوي من أمير قطر والذي قد يتولى السياسة التحريرية في القناة.
وفي ما يشبه رسالة استباقية لنفي أي إرادة عليا دفعته إلى التنحّي، خصوصاً أنّ ذلك جاء بعد أيام فقط على تسريب “ويكيليكس” برقية سرّية تفضح العلاقة بين خنفر ووكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية، قال لموظفيه: “كان يمكن أن أتنحّى خلال الثورة المصرية مثلاً، حين كانت “الجزيرة” في أوج عطائها، ولدينا سجل حافل من الإنجازات، لكنّي كما قلت فضّلت التريّث. وقد حصل إجماع على تعيين السيد أحمد بن جاسم بن محمد آل ثاني مديراً عاماً للقناة، وتطلّب الأمر إمهاله فترة لترتيب أموره الإدارية. واليوم، تسلّم منصبه رسمياً، وجئت لأودّعكم بنفسي”.
وجدّد الإعلامي الفلسطيني للموظفين في “الجزيرة” تأكيده أنّه استقال ولم تجر إقالته، حين أشار صراحة في رسالته للموظفين إلى أنّه “كنت قد تحدثت مع رئيس مجلس الإدارة منذ زمن عن رغبتي في أن أعتزل الإدارة عند انتهاء السنوات الثماني، وقد تفهّم مشكوراً رغبتي”.
وطوال ربع الساعة الذي استغرقه الحديث إلى الموظفين، لم يكشف وضّاح صراحة عن وجهته المستقبلية، مكتفياً بالقول: “سأجد الآن وقتاً أكبر للمضي في بعض المشاريع الخاصة، أوّلها الكتابة. أفكّر في كتاب خاص عن تجربتي في “الجزيرة” صحافياً، ومراسلاً، ومديراً عاماً للقناة طيلة ثماني سنوات”. ولئن أكّد وضاح مراراً أنّه استقال بنفسه من القناة، فإن مصادر موثوقة جزمت لصحيفة “الأخبار” اللبنانية بأنّ “وضاح خنفر لم يتنحَّ بمحض إرادته، بل أبلغ منذ فترة أنّ مهمته في القناة انتهت، وطلب منه أن يبقى في منصبه حتى إيجاد بديل له”. وتشير المصادر ذاتها إلى أنّ الرجل “لم يعد يحظى بثقة القيادة القطرية منذ فترة طويلة”، لأسباب لم توضحها. إلا أنّ مصادر أخرى تنفي ذلك، بل تذهب إلى الترجيح أنّ خنفر قد يتولّى منصباً في إحدى المؤسسات الحكومية في قطر، مثل منصب مستشار.
Leave a Reply