رحلة الصيف الى لبنان هي واحدة من الرحلات الأكثر قرباً إلى قلوب المهاجرين اللبنانيين. لا بديل عن لبنان. ولا أي بقعة في الأرض مهما بلغ جمالها، “تملأ عيني” اللبناني أو اللبنانية مثل لبنان.
ما إن يحل الصيف حتى تمتلئ الرحلات الجوية بالمسافرين لقضاء إجازاتهم في ربوع الوطن الذي لم يغب عن بالهم منذ لحظة مغادرته كرهاً إلى بلاد الله الواسعة.
لكن ما يشهده بلد الأرز من حوادث سير مميتة على مدار السنة بات محنة تقرب من كونها حرباً غير معلنة على سلامة الناس يتواطأ فيها كل المسؤولين أو من يعتبرون مسؤوولين عمن تغص بهم طرقات البلد، التي اتسعت كثيراً، ولكن ضاق معها أفق التعاطي السليم مع أبسط مبادئ الحفاظ على أرواح الناس.
عاصمة لبنان يفترض أن تتمتع بالحد الأدنى المقبول من الالتزام بالأنظمة التي ترعى حركة السير. وطريق مطار بيروت الدولي هي من أكثر الطرقات التي يفترض بالمعنيين أن يطبقوا عليها وحولها تلك القوانين بما يمنع حصول مآسٍ من النوع الذي أودى بحياة المهندس اللبناني الأميركي الشاب محمد حبحاب وطفلته ياسمينة، في تلك اللحظة المميتة التي “طارت” فيها سيارة من جسر يعبر فوق الطريق ولا يمكن أن يكون المسؤول عن “طيرانها” سوى جنون السائقين هناك الذي نشهد حلقات مروعة من مسلسله المتواصل كل يوم.
تفيد الإحصاءات أن ما يقرب من ستمئة شخص يموتون سنوياً في لبنان جراء حوادث السير. ويعني هذا أن حوالي شخصين يسقطان يوميا. لم يشهد لبنان، معدل الموت هذا، إلا في خضم الحرب الأهلية، ومقارنة بسيطة بين الحجم السكاني للبنان والحجم السكاني لبلد مثل الولايات المتحدة تفيد أن لبنان يتفوق بعدة أضعاف على أميركا في حوادث السير المميتة.
في آخر زيارة قمت بها إلى لبنان صيف العام 2005، كانت رحلتي من المطار إلى الجنوب على الطريق السريع المستحدث عرضاً من الرعب المتواصل. سائقون يسيرون من غير هدى ودون أدنى حد من الالتزام بأبسط قواعد السير المتعارف عليها. حرص المشرفون على التخطيط والبناء على تقسيم الاوتستراد السريع إلى خطوط لحركة السير. لكن ما لا تجد له تفسيرا أن كل تلك السيارات العابرة، ومنها السيارة التي نستقلها، لا يلتزم سائقوها بالسير داخل تلك الخطوط، بل إنهم “يخلطونها” فلا تعود ترى أي مبرر لعملية التخطيط.
تسأل السائق لماذا لا تلتزمون بالسير داخل الخطوط المرسومة، فيضحك هازئاً من سؤالك، وعندما تنبهه “بسذاجة” أن سيارة مقبلة نحوك مباشرة، أو أنك متجه للتصادم معها رأساً برأس “يشفق” على خوفك ويسألك منذ كم سنة لم تأتِ إلى لبنان؟ تهرب من الإجابة إلى تلمس حزام الأمان مجددا للتأكد أنك لن “تطير” من النافذة أو عبر الزجاج الأمامي في حال أخطأ السائق في تقدير المسافة بين إمكانية تخطيه لسائق أمامه وإمكانية اصطدامه بالسيارة المقبلة في الإتجاه المعاكس.
هذا نموذج وحيد عن “فن القيادة” في لبنان. ولفنون هذه القيادة جنون لا يتخيلها عاقل. البلد ساحة للسباق بلا حَكَم ولا ضوابط. وهنا تسأل إذا كان اللبنانيون مختلفين على شكل الدولة وهويتها، فماذا يلهيهم عن وقف هذا المسلسل المرعب ولماذا لا يطالبون “بدولة” فقط لنظام السير وتطبيقاته. يحدثونك عن “استراتيجية دفاعية” لمواجهة العدو وليس لديهم استراتيجية، ولا حتى تكتيك، للجم جنون السائقين على الطرقات، ومنع ازهاق الارواح بالمجان.
ثمة عدو داخلي يعبث بأمن اللبنانيين إسمه الفوضى، وكل المسؤولين يتساهلون معه، بل يدارونه، ليقال إن موسم الاصطياف في لبنان بلغ الذروة وسجل عدة ملايين!.
تبدو حوادث من النوع الذي أودى بحياة المهندس الشاب وطفلته ومئات الآخرين من خلق الله، من نوع “الخسائر الجانبية” لنجاح موسم الاصطياف. الإعلام اللبناني لا يتعاطى مع هذه الظاهرة إلا من باب “الأكشن” وملء صفحة الوفيات بنعي الناس من كل الأعمار. وتبدو حكومة البلد التي تعيش حالة تصريف الأعمال، حكومة “تصريف الأعمار”! ثمة حاجة ملحة وخطيرة إلى من يسأل حكام البلد، ماذا تفعلون بمواطنيكم على طرقات تبدو أوسع بكثير من أذهان العابرين فوقها. ولماذا صنعتموها أصلاً إذا كنتم غير قادرين على ضبط الحركة فوقها وعدم تحويلها إلى مسارح موت يومية للأبرياء. أين هي الخطط والإجراءات لتثقيف السائقين ولردع المعتدين على حياة الناس بأنماط تفكيرهم المتحجرة التي لا ترى قيمة لحياة البشر. المسؤولون في الوزارات المعنية شركاء في هذه الجريمة المتمادية التي ترتكب بحق الناس. لقد صار السير على طرقات لبنان مثل الذهاب إلى جبهة عسكرية، لا ضمانة بالعودة منها. وماذا يسمي قاموس السياسة اللبنانية هؤلاء الضحايا؟ هل هم ضحايا أقدارهم؟ شهداء؟ أم أن شروط “الشهادة” في حروب الزواريب المذهبية والطائفية لا تنطبق عليهم. هل من يجرؤ على السؤال: ياسمينة ابنة الأعوام الثلاثة بأي ذنب قتلت؟ ومن المسؤول عن قتلها؟ لم تصطدم سيارة والدها الضحية بسيارة على الأرض. أتاها الموت من “الأعلى”.
كيف لمحمد حبحاب الذي كان يقضي أجمل لحظات عمره مع زوجته وأطفاله الثلاثة أن يتوقع هذا الموت؟
لماذا لا يبادر “نواب الأمة” من خلال دورهم التشريعي (أليس هذا هو دورهم؟) إلى استنان قوانين صارمة لوضع حد لهذه الفوضى الدموية على طرقات لبنان؟ ألم يذهب أحدهم (النائب الراحل علي الخليل) ضحية حادث سير مروع قبل عدة سنوات؟
لكن أين صوت الناس ليرتفع بوجه المسؤولين وأمراء الطوائف الذين يخوضون هذه الآونة ورشة ترميم نظامهم البالي لترسيخ تربعهم على أكتاف الناس والنطق باسم حقوقهم وتطلعاتهم؟ أم أن حال اللبنانيين باتت تصفها مقولة “يرضى القتيل وليس يرضى القاتل”.
بصراحة، إن حكاماً ومسؤولين يرضون بهذا العبث بحياة مواطنيهم، هم حكام قتلة. لأن مسؤولية الحاكم هي حماية الناس من خلال تطبيق القوانين وإرساء دعائم دولة تقوم بواجباتها تجاه مواطنيها. من يحاسب قتلة محمد وياسمينة حبحاب وغيرهم ممن يتساقطون يومياً على طرقات لبنان؟
من يعلي الصوت بأن تشكيلة الحكومة وتوزيع حصصها بين موالاة ومعارضة لم تعد تعني شيئاً للبنانيين. إذا كان الجميع متواطئين على مشروع الدولة لحساب دويلاتهم الخاصة.
من يصرخ بوجههم جميعاً أن لابديل عن الدولة التي تحمي الناس وتسوس أمورهم وتشعرهم أنهم يعيشون في ظل دولة القانون، لا في غابة تسرح فيها الوحوش.
محمد حبحاب المهاجر الطموح الذي صنع مجد نجاحه وتألقه في “بلاد الغرب” دفع حياته وحياة طفلته ثمناً لحبه لوطن ظل يسكن خافقيه سحابة هجرته الطويلة.
المهندس اللبناني وطفلته وكل الأبرياء ضحايا هذا الإهمال المتمادي في تطبيق القوانين في بلاد الأرز هم شهداء تآمر كل أقطاب وأمراء الطوائف لترسيخ غياب الدولة، التي بدونها، سيكتشف اللبنانيون مقيمين ومغتربين، عاجلا أم آجلا، أن ما ظنوه وطنا وواحة للاستراحة من أوصاب الغربة، والإقامة، ليس سوى قبر مفتوح وحكامه ليسوا سوى شلة من حفاري القبور.
Leave a Reply