حكومة الأولويات ماذا تفعل؟
هذا السؤال يطرحه اللبنانيون، وهم يرددون شعار رئيس الحكومة سعد الحريري، أن أولويات حكومته هي معالجة قضايا المواطنين الحياتية والمعيشية، ورفع مستوى الخدمات، وتحقيق استقرار اقتصادي وتأمين فرص العمل، والحد من الهجرة، ووقف النزف البشري، لا سيما للشباب والخريجين منهم من الجامعات والمعاهد، والحفاظ على الضمان الاجتماعي، وتحسين الوضع الصحي، وإقرار الحماية الاجتماعية بما هي ضمان الشيخوخة، وتطوير الجامعة اللبنانية، ورفع مستوى الثانويات والمدارس الرسمية، وحل أزمة السير والحوادث الناتجة عن حركة المرور، إذ يقع سنوياً حوالي ألف قتيل، ونحو 25 ألف جريح.
وتبقى الأزمة الكبرى هي أزمة الكهرباء، وتتبعها أزمة المياه التي تهدد بعطش اللبنانيين بعد سنوات، إذا لم تبدأ مشاريع بناء السدود.
بين كل هذه الأزمات المتوارثة، والتي لا تتحملها هذه الحكومة لوحدها، بل هي عمرها من عمر توقف الحرب الأهلية قبل عشرين عاماً، ولم يشعر المواطنون أن ثمة أزمة تقدم الحل نحوها، وإن حصل فيكون إما بالترقيع أو بالصفقات أو بالتسويف.
ومسؤولية هذه الحكومة أن رئيسها الشاب الذي يختبره اللبنانيون للمرة الأولى في المسؤولية، أنه مع وزراء حكومته، لم يتقدموا بعد نحو العمل، وما زال الوضع يدور في حلقة مفرغة، بدليل تراكم الأزمات على المواطنين، الذين صبروا كثيراً ولم يعودوا يتحملون المماطلة والتأجيل، والسجالات السياسية والتناحر.
ففي الشهر الماضي وقبله طبعاً، تحرك الشارع في حالة غضب عبّر عنها المواطنون في كل لبنان تقريباً، عن انقطاع التيار الكهربائي الذي يتحملون تقنينه، ولكنهم لا يستطيعون البقاء أياماً في الظلام في ظل طقس حار صحراوي لم يعرفه لبنان منذ عقود بعيدة، إذ يؤكد الخبراء الجيولوجيون والبيئيون، أن الفصول الأربعة التي كانت تميّز طبيعة لبنان، هي الى انحسار نحو فصلين صيفي يمتد تسعة أشهر وشتائي الى ثلاثة أو أربعة أشهر كحد أقصى.
فالكهرباء الذي صرف عليها أربعة مليار دولار، وتسبب عجزاً سنوياً للخزينة بحدود مليار ونصف مليار دولار، حسب أسعار النفط والفيول الذي تتغذى منه معامل الإنتاج لتوليد الكهرباء، التي وضعت لها البرامج والخطط منذ أول وزير في أول حكومة بعد الطائف ترأسها الرئيس سليم الحص، وبقي وضعها من أزمة الى أخرى، لسبب واضح، وهو أن هناك من كان يفكر بإدخال لبنان في الخصخصة، ولا بد من انهيار وضع مؤسسة كهرباء لبنان، من أجل بيعها أسوة بالهاتف الخلوي، لكن تفاقم الأزمة، عرقل قطاعاً كان مربحاً ويدر أموالاً على الخزينة، الى قطاع خاسر ومفلس، فابتعد القطاع الخاص عن الاستثمار فيه حتى تحت عنوان الشراكة مع القطاع العام.
تقدم وزير الطاقة جبران باسيل، وقبله سلفه آلان طابوريان بخطة لحل أزمة الكهرباء على مدى أربع سنوات، لكن رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة لم يتجاوب مع طابوريان، وعطّل الخطة، ورئيس الحكومة الحالي لا يبدو متحمساً، لأن ثمة عقليتين تتحكمان بالنهج الاقتصادي أو السياسة الاقتصادية للدولة، وهي بيع مرافقها للقطاع الخاص وهذه نظرية حريرية–سنيورية، وبين نظرية أخرى تدعو الى أن تبقى الدولة هي المالك الأساسي لمرافقها ويساعدها القطاع الخاص أين تتعثر في الإدارة وأحيانا في الإنتاج.
وبين النظرتين، تستمر أزمة الكهرباء التي لا حلول آنية لها، سوى الحديث عن استئجار بواخر تولّد الطاقة، يتم وصلها بمعامل الإنتاج لزيادة الكمية التي هي الآن 1600 ميغاواط في حين أن حاجة لبنان هي الى 2400 ميغاواط في وضعه القائم، وهذا الحل المؤقت بتأمين 200 ميغاواط من باخرة ترسو في البحر، لا يمنع أن تباشر وزارة الطاقة في خطة وزيرها باسيل، وأن تعقد الحكومة جلسة وأكثر لإقرارها وتتضمن جدولاً زمنياً، لانجاز عمل بحل أزمة الكهرباء، ويمكن البدء من وقف الهدر في التيار على الشبكة، ومنع السرقة وتحسين الجباية ووقف المعتدين على التيار بعقوبات صارمة تصل الى السجن ولو اضطر الأمر الى سن قوانين رادعة، وترشيد الإنفاق في التيار، وإلغاء المربعات السكنية أو المناطق التي تمتنع عن تسديد المستحقات عليها، وشن حملة في هذا الإطار.
ومع الشكوى عن امتناع مناطق عن دفع المستحقات للكهرباء، بدأ يبرز كلام طائفي ومذهبي عنها، وليس النظر الى الموضوع في نطاقه الجغرافي، وهذا أمر خطير يظهر أن ثمة “كانتونات كهربائية” وقد تم التعبير عنها من قبل الوزير باسيل الذي تحدث بصراحة عن المناطق التي تدفع والتي تتهرب عن الدفع، أو التي تنفذ القانون وأخرى تعتدي على شبكات الكهرباء.
فهذه الأزمة لا تحل بقرار إداري، بل بقرار سياسي، ولا تتم المعالجة طائفياً، لأنها تكهرب الجو السياسي، بل توضع خطة متكاملة، تبدأ ببناء معامل إنتاج جديدة، تستخدم الغاز وبقوة 4000 ميغاواط، ثم بدخول لبنان في شبكة الربط الكهربائي السباعي والاستفادة منها، وبدء البحث عن الطاقة البديلة، وقد بوشر باعتماد الطاقة الشمسية للخدمة المنزلية التي تخفف العبء عن التيار الكهربائي، إضافة الى الطاقة من الهواء، وهو مشروع نجح في عكار، ويبقى الاعتماد على السدود التي عرف لبنان تجربة ناجحة في مشروع نهر الليطاني الذي نفذه المهندس إبراهيم عبد العال، ويمكن تعميم هذا النموذج في أكثر من منطقة والدراسات موجودة، لكن يبقى قرار التمويل والتنفيذ وقد دخلت الكويت، على خطة تمويل استكمال مشروع الليطاني، وكذلك يمكن بالتعاون مع سوريا للاستفادة من مياه نهر العاصي.
فلا ينقص لبنان الدراسات والخطط، بل ما يفتقر إليه، هو الإرادة عند الطبقة السياسية الحاكمة التي لم تعمل فعلياً لبناء لبنان الدولة بدل المزرعة أو قيام مؤسسات دستورية لا عشائرية أو قبلية أو تابعة لهذا الزعيم الطائفي أو ذاك.
وهذا ما كان ينتظره المواطنون من الحكومة الحالية أن تعمل وتنتج وتتطلع الى حل أزماتهم، أو المباشرة بحلها، لكن بعد عام على تشكيلها تقريباً، فإن الحكومة تراوح مكانها، والأزمات تتفاقم وقد بدأت تطل أزمة الضمان الاجتماعي المهدد بالإفلاس، بعد أن تم تجفيف صندوقي المرض والأمومة والتعويضات العائلية من مواردهما، فامتدت اليد الى صندوق نهاية الخدمة الذي إذا ما استخدمت أمواله، فإن حقوق المضمونين تكون طارت بسبب سوء التخطيط عندما تم تخفيض الاشتراكات تحت عنوان جذب الاستثمارات، وهذا قرار اتخذه الرئيس رفيق الحريري عام 2000، بالرغم من تحذيره من أن الضمان قد تتراجع موارده تحت ضغط المصاريف، مع إدخال شرائح جديدة كمضمونين إليه، كالسائقين مثلاً، إذ بات كل من يملك لوحة عمومية مضموناً، وهذه كانت وسيلة لدخول غير المضمونين في مؤسسات الى الضمان، مما تسبب بخلل مالي فيه، كما حصل مع الضمان الاختياري، ومع غيرهم من المضمونين، الذين ادخلوا من دون التحقق أنهم لا يشكلون عبئاً مالياً على الضمان ويستنزفونه وهذا ما حصل، وقد عاد الحديث عن رفع الاشتراكات الذي يواجه برفض عمالي ونقابي واعتراض من المستشفيات، التي هددت إبقاء المرضى خارجها.
فالضمان الاجتماعي الذي يستفيد منه ثلث الشعب اللبناني مهدد بالإفلاس، ويبدو أن الحلول التي تقدم ليست بالمستوى المطلوب، والأمان الاجتماعي للمواطنين بات في دائرة الخطر، وكأن المطلوب ومنذ فترة بعيدة، تهديم هذه المؤسسة لصالح شركات التأمين، وهذه فكرة راودت السنيورة قبل أعوام وتم التصدي له.
فالأزمتين الكبيرتين الكهرباء والضمان الاجتماعي، ومعهما أزمة الشح في المياه، يفتح الباب للسؤال عن أزمات متفرعة ومنها موضوع البطالة التي تفشت في صفوف الشباب وارتفعت نسبتها الى حدود 25 بالمئة، كما أن حالة الفقر تنبئ بوضع مأساوي إذ سجلت التقارير الدولية بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية أن نسبة الفقر ارتفعت الى حدود 35 بالمئة وأن عائلات في لبنان تعيش على دخل 4 دولارات يومياً بمعدل ستة ألاف ليرة لبنانية (180) ألف ليرة شهرياً، كما أن الحد الأدنى للأجور وهو 500 ألف ليرة لبنانية لا يساوي ثمن نقل لموظف يسكن خارج بيروت مع مصروفه اليومي، وهو ما يؤشر الى عمق الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية، التي بدأت تتصاعد مع أزمة السكن بارتفاع أسعار العقارات خلال السنوات الثلاث الماضية، بحدود ما بين 300 و400 بالمئة، وفي بعض المناطق الى نسب أكبر، إذ لم يعد بمقدور مواطن يقبض راتباً حتى بحدود ألفي دولار وهو رقم لموظف من طبقة متوسطة، أن يشتري شقة أو يستأجرها ليس في بيروت بل في ضواحيها، لأنها تستنزف نصف راتبه وأكثر. فأزمة السكن بدأت حديث الناس، وهي قد تكون سبباً بانفجار اجتماعي، إذ تترك الحكومة هذا الموضوع للمصارف، ليتحكموا بها، ويستثمرون أموالهم المكدّسة في العقارات، حيث تغيب الدولة كلياً عن شأن اجتماعي-اقتصادي له علاقة، بمستقبل الشباب اللبناني الذي لم تعد الهجرة تشكل كما في الماضي باباً للثروة، بل مكاناً للعمل وبدخل متدنٍ، إذ أن الأزمات المالية والاقتصادية تضرب دول العالم قاطبة.
فحكومة الأولويات، هي حكومة البهلونيات، وحكومة الرحلات، وحكومة الفراغ، وحكومة اللاإنتاج.
هذه أوصاف سياسيين ومواطنين عنها، فماذا فعل رئيسها ليحوّل أقواله الى أفعال، ويكون وعده صادقاً.؟
Leave a Reply