أن تكون مُراقباً، يعني أنك شخص خطِر، أو مشكوك فيه. ويعني أيضاً أن هناك من يترقب أفعالك ونواياك في كل لحظة. ونحن العرب قد نتقبل فكرة “كوننا تحت المراقبة” لأسباب دينية بحتة، فالله يراقبنا على الدوام ويسجل أدنى حركاتنا وسكناتنا، ولكننا في الوقت نفسه، نرفض فكرة المراقبة التي يقوم بها البشر (من راقب الناس مات هماً) لأسباب تتعلق بالسعادة، وليس بالخصوصية.. وهذا أمر مثير!..
فكرة “المراقبة” نفسها، فكرة غريبة.. تنتج كل ذلك الكم من الرعب الذي يليق بكون الإنسان “كائناً خطيراً”.. مع فارق أن “الثقافات” تنتج أشكالاً متعددة من المراقبة، تبدأ بالكاميرات ولا تنتهي بالأقمار الاصطناعية.
في أميركا، ثمة الكثير من الكاميرات، في كل مكان، في البنك وفي المحطة، في المطعم وفي المصعد، في مواقف السيارات وفي الشوارع. وفي أحيان كثيرة توجد لافتات: “انتبه.. يوجد كاميرات!”وهذا تحذير ناعم، يعني “كن إنساناً طيباً”.
أيضاً، ثمة أنواع خفية من “المراقبات”، فالكريدت كارد لا يحصي ديونك فقط، بل يحصي جميع تحركاتك. مكالماتك مسجلة ومخزنة في ذواكر إلكترونية لا تصاب بالزهايمر، بريدك الإلكتروني أيضاً. الفضاء الآن ليس أكثر من مستعمرات للأقمار الاصطناعية التي تسجل كل شيء، وإذا فكّرت أكثر.. ثمة رعب ذهني قد ينفجر!..
والظريف.. إن الإنسان قد يعتاد فكرة المراقبة، وقد يتأقلم معها، وشيئاً شيئاً يبدأ “بممازحة الكاميرا” ويحولها من أداة لمراقبته إلى مرآة، ينظر إلى الشاشة ليصلح هندامه، أو تسريحه شعره، وربما لاستراق النظر إلى الحسناء التي تقف خلفه في الطابور.
يقبل المرء الكاميرا، وربما يحبها، أو على الأقل يتضاءل خوفه منها، لأن الكاميرا “أداة” لا تكذب، ولا تزوّر، وليس عندها أحقاد “شخصية” على عكس أدوات المراقبة في البلاد التي جئنا منها -والتي لا تزال وراء البحار- فهناك لا يستعملون “الكاميرات في المراقبة” بل يستعملون “المخبرين والمراقبين” ليس لنقص في التكنولوجيا بل لتقليص البطالة. فضلاً، عن أن الآلة مهما بلغت دقتها، تظل ناقصة ولا تفي بالغرض، فأية “كاميرا” تستطيع تسجيل المشاعر والنوايا والأحاسيس؟
هذا هو الفرق الحاسم، الكاميرا ترصد الأفعال، و”المخبرون” يرصدون كل شيء. والكاميرا لا تختلق ولا تزيف، والمخبرون يلفقون ويكذبون لإظهار الولاء. الكاميرا ليس عندها أحقاد، والمخبرون قد يتحولون في أية لحظة من “رقباء” إلى قضاة وسجانين وأعداء.
هنا، أنت تذهب بقدميك إلى “الكاميرا” وهناك.. تلاحقك “الكاميرا” حتى إلى فراش الزوجية. هنا.. تعتاد على الكاميرا وتتوقف عن ملاطفتها والنظر إليها، وهناك أنت مضطر إلى تبجيلها وتمسيح الجوخ لها.
في الفيلم الألماني “حياة الآخرين” يسأل الكاتب أحد المسؤولين في وزارة الثقافة بعد انهيار النظام الاشتراكي في ألمانيا الشرقية: “لماذا لم تراقبوني كما فعلتم مع أصدقائي؟” فيرد المسؤول: هل أنت أحمق.. لقد كنا نراقب كل نأمة!
وبعدها يهرع الكاتب لى منزله، ليكتشف الأسلاك والميكروفونات وكل وسائل التجسس الأخرى، ثم يذهب إلى “مركز المراقبة” ليقرأ كل التقارير التي كتبت عنه، وعندها يكتشف أن “العميل” الذي كان مكلفاً بمراقبته قد حجب كل المعلومات التي كان من الممكن أن تضر به، ذلك أنه بعد وقت قصير من المراقبة، أحب العميل حياة الكاتب وعلاقته مع زوجته التي ضحت بروحها من أجل زوجها فيما بعد، في الوقت الذي كان فيه العميل يتساءل: هل من الممكن وجود شخص يحبني كما تحب هذه المرأة زوجها؟!
في تلك المرة كان المراقب شخصاً يمتلك بعض الأحاسيس النبيلة، وهي مرة نادرة على أي حال!
Leave a Reply