محنٌ كثيرة مرّت على الأميركيين منذ نجاح ثورة استقلالهم عن التاج البريطاني في الرابع من يوليو من العام 1776، بقيادة جورج واشنطن وبدعمٍ من جيش فرنسي قاده الجنرال لافاييت. ومن المفارقات الملفتة للانتباه في تاريخ التجربة الأميركية أنّ بريطانيا كانت خصم الأميركيين وعدوّهم الأوّل، ثمّ أصبحت في منتصف القرن العشرين وما بعده أهمّ حلفاء الولايات المتّحدة، بينما فرنسا التي كانت أكثر من ساعد الثورة الأميركية حين قيامها، وحيث للفرنسيين فضلٌ كبير في نجاحها وفي دعم نظام الحكم الأميركي الجديد، تتباين سياساتها مع الولايات المتّحدة في قضايا ومحطّاتٍ زمنية عدّة. ولعلّ في ذلك تأكيداً لمقولة إنّ في العلاقات الدولية ليس هناك صديقٌ دائم أو عدوٌّ دائم وإنّما مصلحةٌ دائمة.
وفي العام 1929 شهدت الولايات المتّحدة انهياراً اقتصادياً كبيراً بسبب فوضى بيع الأسهم والمضاربات المالية، ممّا نتج عنه تراجعٌ اقتصادي ضخم.
ثمّ عاشت أميركا محنةً أخرى في حقبة الستّينات من القرن الماضي حينما جرى اغتيال الرئيس جون كندي، وفي عامٍ لاحق (1968) جرى اغتيال شقيقه المرشّح للرئاسة روبرت كندي وزعيم الحقوق المدنية القس مارتن لوثر كنج.
وفي مطلع القرن الحالي، شهدت أميركا الأعمال الإرهابية يوم 11 سبتمبر 2001، والتي وظّفها «المحافظون الجدد» في إدارة بوش الابن لتبرير حروب كبرى في أفغانستان والعراق، ولتغييراتٍ مهمّة في السياستين الداخلية والخارجية. وقد نتجت عن هذه الحروب والسياسات خسائر بشرية ومادّية كبيرة، وانتهت فترة بوش الابن بتدهورٍ اقتصادي أميركي كبير.
هذه نماذج من محن مهمّة عاشتها الولايات المتحدة، وهي في عيد ميلادها هذا العام، تحتاج لوقفةٍ مع نفسها لمراجعة ما يسود الآن من سياسات. فالمجتمع الأميركي يعاني اليوم من انقساماتٍ شديدة على قضايا عدّة. فهناك ازدهارٌ لظاهرة التسلّح الفردي في ولايات أميركية عدّة، ولممارسات عُنفية مختلفة الأسباب والأنواع. وقد بدأت الجماعات العنصرية تنتعش من جديد ضدّ الأميركيين الأفارقة، وما يحدث الآن على الحدود الجنوبية لأميركا من ممارساتٍ مشينة ضدّ المهاجرين غير القانونيين وأطفالهم لأمرٌ معيب لكلّ مواطنٍ أميركي يُدرك في قرارة نفسه أنّه هو أيضاً ينحدر من عائلة مهاجرة!
أميركا معنية اليوم أيضاً بالعودة إلى خلاصات تجربتها في الثورة والاستقلال وبناء الأمّة الأميركية. خلال الحرب الأميركية على العراق، أشار أكثر من مسؤول أميركي إلى أنّ واشنطن تريد أن يكون العراق في المستقبل نموذجاً لكلّ المنطقة العربية. وقبل هذه الحرب وبعدها، نجد الأوساط السياسية والإعلامية الأميركية تتعامل مع إسرائيل على أنّها «الدولة الديمقراطية الحقيقية» في الشرق الأوسط! هذا النموذج «الديمقراطي» الإسرائيلي الذي يقوم على عنصرية دينية يهودية.
وقد يكون أجدى للعرب أن يطالبوا واشنطن بالعمل على تطبيق «النموذج الأميركي» نفسه في المنطقة العربية.
فالتجربة التاريخية للأمّة الأميركية فيها الكثير من الإيجابيات التي تحتاجها الآن الأمّة العربية. وقد أخذت الدول الأوروبية بالنموذجيِّ منها فعلاً حينما تحرّرت من المرحلة النازية–الفاشية، واتّجهت إلى التعاون والتكامل والاتّحاد أملاً منها بالوصول إلى حالة «النموذج الأميركي».
في التجربة «النموذجية» الأميركية محطّات وخلاصات وأولويات من المهمّ التوقّف عندها:
–أولاً– مرحلة التحرّر: إذ قبل أن تكون «أمّة أميركية» كانت مستعمرات وكان التحرّر من التاج البريطاني هو البداية العملية لنشوء الأمّة الأميركية، إذاً الأساس في النموذج التاريخي الأميركي هو الحرّية بالتخلّص من الاحتلال ومن الهيمنة الخارجية، وبأنّ مقاومة الاحتلال من أجل الاستقلال هي حقّ مشروع لبناء أمّة حرّة.
–ثانياً– مرحلة البناء الدستوري: مؤتمر فيلادلفيا صيف عام 1787 الذي جمع بين الممثّلين المنتَخبين عن الولايات من أجل بحث الخلافات والحدّ من الصراعات، أنتج الدستور الأميركي وما فيه من رؤى ثاقبة لكيفيّة الجمع بين الحفاظ على الاتّحاد وبين البناء الديمقراطي السليم.
–ثالثاً– مرحلة الدفاع عن وحدة الأمّة: لم يكن البناء الدستوري السليم وحده كافياً لضمان وحدة الأمّة الأميركية. فعلى الرغم من عدم وجود «مؤامرات خارجية» أو «أجهزة أمنية أجنبية»، فإنّ الاتّحاد الأميركي هدّده خطر انفصال الجنوب عن الشمال، وحصلت الحرب الأهلية الأميركية عام 1864. ولولا هذه الحرب لكانت أميركا الآن «أميركيات» متصارعة، ولانتهت «الأمّة الأميركية» وهي في المهد.
هذا هو النموذج الأميركي المطلوب للعالم وليست أميركا العنصرية أو أميركا العدوانية.
العرب يريدون لأمَّتهم ما أراده الأميركيون للأمَّة الأميركية حينما تحرّروا من الهيمنة البريطانية، وما فعله الأوروبيون في قارّتهم المليئة بالصراعات الدموية التاريخية وبالتنوّع الديني والإثني والثقافي. العرب يريدون لأمَّتهم تكاملاً بين أوطان الأمَّة الواحدة وتطويرَ صيغ العمل العربي المشترك.
Leave a Reply