يشكّل الحبُّ لدى الكثيرين نقطةَ الضَعف المعيبة للأنثى من جهة، وانتقاصاً للرجولة من جهةٍ أخرى، ولكنّ الحقيقةَ هي غير ذلك، لأنّ الحياة من دون حبّ كصحراء قاحلة لاماء فيها ولا شجر وتخلو من كلّ مظاهر الحيويّة والجَمال، بتعبيرٍ آخر مثل هواء في سديم لارائحة له ولا لون، يمضي هباءً في السكون والوحشةِ والإكتئاب.
كانا شابَّين في ريعان العمر، تحابّا معاً وذاقا طعمَ العشقِ الحقيقي، فجمعهما حلم لذيذ، وقاسيا معاناة هائلة في آن، تعارفا في مدينة ليس لها طريق، وفجأةً انبثق النور من شقوق جميع الإتّجاهات، وتعانقت روحاهما، وانصهر الإثنان في جسدٍ واحد، غير أنّ اختلاف المعتقَدات بين أسرتيهما كانت العائق الوحيد أمام انطلاق ذلك الحبّ الجارف نحو اجتماعهما الأبدي، دخلَ الأهلُ على الخط، وسافرت الفتاة بمعيّة أهلها إلى المهجر، ولكنّ قلبها بقي مع الحبيب الذي نسجتْ معه أجملَ قصّة حبّ، دوّنتْ كلّ ما جرى في مذكّراتها، وكانت دموعها هي المداد الذي تكتب به، وكان والدها رجلاً مغزولاً من نار، يدوس على مشاعر كلّ من لا يرضخ لأوامرِه من أفراد العائلة.
أمّا العاشق المسكين، فقد راح يتقلّب على لوحٍ من المسامير النابتة، يتوسّل دفءَ الشواطيء المستحيلة حتّى غارَ البحر في صحنٍ هائلٍ من الظلام، باسطاً شواطئه للنسيم، وراح ينعى أحلامَه كما لو كانت تذوب بين الزَبَد.
مضتْ سنوات، لتعودَ الحبيبة إلى بلدها مع العائلة دون الوالد حيث توفّاهُ الله، وفي أحد مطاعم العاصمة، حيث كانت تتناول طعامَ العشاء مع اختها، فإذا بضحكتها الرنّانة تصل إلى أذنَي أحد الزبائن الجالس وراء مائدته على المقعد الخلفي، فصعِق الرجل وانتفضَ واقفاً ليصغي إلى مصدر الصوت، فإذا بالحبيبة الغائبة المتوارية كلّ تلك السنين والأعوام تظهر بطلعتِها من جديد، فاقتحمَ جلستَها مع اختِها وصوّبَ نظرَه إليها ليتأكّدَ من أنّها هي تلك التي استحوذتْ على أفكارهِ وتملّكتْ أحاسيسَه طيلة تلك السنوات، فأذهلتْه المفاجأة حين رآها بنفس تلك الرقّة وذلك الجَمال الذيْن عرفهما فيها، أمّا هي فقد بادلته النظرات واغرورقت عيناها بالدموع، لم تعرف بأنّها أبكتْ فرحاً باللقاء، أم لطول البعاد واستعادة الذكريات، دعتهُ للجلوس فقالت له: (هاقد كبرنا وكبرتْ معنا الجراح، وعصفتْ بنا رياحُ الفراق) فأردف قائلاً لها: (ولايسعنا إلّا أن نجدّد ذلك الماضي الجميل، لقد عشتُ بعدكِ أحدّث الموج أن يمنحني طفولتَه، ولليل أن يعلّمني شروطَ السهر).
لكنّه شمَّ رائحة سنوات العمر الفائتة، ورأى في عينيها أدغالاً من الدموع، إنّها امرأة رائعة لا تشبهها امرأة أخرى، نظرتْ إليه بتصابٍ واضح، رغم أنّها لم تستطع بمكابرتها أن تُخفي أثر السنين التي نالتْ من رشاقة شبابِها، فحدّث الرجل نفسَه: (لا أستطيع أن أنكر أنّني ما زلتُ أحبّها، وما زلتً أتوسّم فيها النموذجَ الحيوي المقبل على الحياة، فهي قادرة على ترويض الزمن كما تهوى)، ثمّ مضتْ هي عنه بخطىً وئيدة تتضوّع خلفَها رائحة عطرِها التي طالما أنعشتْ ذلك العاشق.
إلتقيا بموعد مسبّق، وكاد يطير من الفرح، يخفق قلبه بداخله ويكاد أن يخرج من بين أضلاعه ويستقرّ بين يديها، لكنّ نظراتها كانت حزينة، يكتنفها نوع من الغموض والمكابرة، وبعد إلحاحٍ شديدٍ منه عن دوافع ذلك الحزن، أخبرتْهُ بأنّها لن تتزوّج أبداً رغم تأكيدها على أنّها عاشتْ على ذكرى ذلك الحبّ الطاهر، تمنّي النفس علّها تظفر به يوماً ما، ولكنّ القدر لم يمهلها لتحقيق أمل العودة، حيث أصيبتْ بمرضٍ خبيث.
بكى الإثنان معاً، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتّى حصدَ الموت تلك المرأة التي لم ترَ من الحياة سوى قساوتها وظلمها، أسلمت الروح وفي عينيها صورة الحبيب المفجوع الذي كان يأمل ويرسم في مخيّلته لوحةَ الحياة الحميمة التي تجمعهما في بيتٍ واحد وتحت سقفٍ مشترك.
Leave a Reply