بقلم: صبحي غندور
تعيش بعض الدول العربية أزماتٍ داخلية حادّة وصل العديد منها إلى مستوى العنف المسلّح، بل إلى حدّ الحروب الأهلية الدموية. والأمر لم يكن محصّلة «مؤامرات خارجية» أو «مخطّطات صهيونية وأجنبية» فقط، رغم وجود هذه المخططات وتأثيراتها السلبية، إذ أنّ اساس العطب هو في «الداخل» العربي الذي أباح ويبيح استباحة «الخارج» الدولي والإقليمي لكلِّ شؤون العرب وأرضهم وأوطانهم.
هذا الواقع العربي المرير الآن هو مسؤولية مشتركة بين الحاكمين والمعارضين معاً، فمِن المهمّ جدّاً إدراك مسؤولية المعارضات العربية عن مستوى الانحدار الذي عليه بعض الأوطان، حيث
تحوَّل مطلب تغيير الحكومات إلى مقدّمة لتهديم مجتمعات وكيانات وطنية. فالمعارضات
العربية معنيّةٌ بإقرار مبدأ نبذ العنف في العمل السياسي، وباتّباع الدعوة السلمية القائمة على الإقناع الحر، وبالتعامل مع المتاح من أساليب العمل السياسي، ثمّ بالتمييز الحازم بين معارضة الحكومات وبين تهديم الكيانات، حيث خلطت عدّة قوى عربية بين صراعها مع السلطات، وبين تحطيمها -بوعي منها أو بغير وعي- لعناصر وحدة المجتمع ولمقوّمات وحدته الوطنية.
وقد انشغل «المعارضون العرب» في مرحلة ما قبل تفجّر الانتفاضات الشعبية في العام 2011 بطروحات فكرية وسياسية متضاربة، حاولت تشخيص العلّة في المجتمعات العربية، فلم تجد لها من دواء إلا ما هو معروضٌ في السوق العالمي من أفكارٍ ونظريات!.
فهناك من حدّد المشكلة العربية حصراً في غياب المجتمع العلماني المدني، ورأى البعض الآخر سببها في الابتعاد عن الدين وأحكامه وشريعته! وقد تعامل البعض مع الأمراض المشتركة في الجسم العربي وكأنّ مصدرها علّة واحدة.. قد تكمن في اضطهاد المرأة العربية أو في غياب الديمقراطية، بحيث أنّ علاج هذه المشكلة أو تلك وحدها يشكّل -بنظر هذا البعض- الأساس لعلاج كلّ أمراض المجتمع العربي!
أيضاً، نظر البعض إلى البلاد العربية كأمَّة واحدة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فأعاد أسباب تخلّفها الراهن ومصائب شعوبها المتعدّدة إلى غياب الوحدة السياسية بين العرب.. بينما نظر البعض الآخر إلى صيغة الكيانات العربية القائمة بمثابة السقف الأعلى الذي لا يجب تجاوزه حاضراً ومستقبلاً..! وبين هذا الطرح «الوحدوي العربي».. وذاك الطرح «الوطني الإقليمي»، دخلت جماعات «العولمة» التي تنظر لمشاكل العالم كلّه -ومنه عالم العرب- بمنظارٍ اقتصاديٍّ بحت، لا يعترف بهويّة ثقافية، ولا بخصائص حضارية مميّزة، ولا يميّز بين عدوٍّ محتل وبين شعبٍ شقيق، إلا بمعيار المصلحة الاقتصادية!
لكن رغم هذه التباينات الفكرية الواسعة، لم يختلف اثنان في البلاد العربية على أهمّية الإصلاح السياسي والاجتماعي.. الخلاف كان دائماً على الوسائل والكيفيّات. فالإصلاح الشامل المطلوب يحتاج إلى عملية تراكمية وتكاملية على المدى الطويل لا إلى عملية انقلابية ضدّ حكومات.. ووسيلته الناجعة هي الدعوة السلمية والإقناع الحر وليس بقوّة العنف المسلح التي تشرذم الأوطان، وقد تصل بها أحياناً إلى الحروب الأهلية.
أيضاً، صحيحٌ أنّ «الديمقراطية» و«العدالة الاجتماعية» هما أساسان لبناء المجتمعات من الداخل، لكن حينما يكون هذا «الداخل» متحرّراً من الاحتلال أو من سيطرة «الخارج». أمّا عندما يخضع شعبٌ ما للاحتلال أو للسيطرة الخارجية، فإنّ مفاهيم ووسائل تطبيق الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية، ستكون فقط بما يتناسب مع مصالح المحتل أو المسيطر، لا بما يؤدّي إلى التحرّر منه أو من نفوذه المباشر.
أمّا عن العامل الديني الهام في الحياة العربية فهو عنصرٌ هام لبناء الأساس الفكري والخلقي والقيمي لأيِّ حركة إصلاح عربية.. لكنّه يحتاج إلى تأصيل وإلى تمييز عن الجماعات التي تدّعي الوصل بالدين بينما تتناقض أفكارها وممارساتها مع جوهر كل الرسالات السماوية، بل هي أيضاً مسؤولة عن الانقسامات الطائفية والمذهبية التي جعلت “العدوّ” هو “الآخر” من الطائفة الأخرى، بدلاً من مواجهة المسؤول فعلاً عن سوء الواقع وفساده.
إنّ الواقع الراهن للمنطقة العربية يقوم على مزيج من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في معظم البلاد العربية.
ومن الطبيعي أن تتحرّك جماعات معارضة للمطالبة بأوضاع أفضل ومن أجل حقّ المشاركة الفعّالة في الحياة العامّة، لكن المشكلة أنّ الحركات السياسية تحتاج إلى آفاق فكرية واضحة المعالم، وإلى أطر تنظيمية سليمة البناء، وإلى قيادات مخلصة للأهداف وليس لمصالحها الخاصّة .. فهل هذه العناصر كلّها متوفّرة في الحركات السياسية العربية المعارضة اليوم؟.
أيضاً، فإنّ الواقع العربي الراهن تختلط فيه مفاهيم كثيرة لم تُحسَم بعدُ فكرياً أو سياسياً. وهذه المفاهيم هي أساسٌ مهم في الحركة والتنظيم والأساليب، كما هي في الأفكار والغايات والأهداف. فما هو الموقف من التعدّدية بمختلف أنواعها داخل المجتمع، وما هو الفاصل بين المقاومة المشروعة وبين الإرهاب المرفوض، وما هي العلاقة بين حرّية الوطن وبين حرّية المواطنين؟ وكيف يمكن الجمع بين الديمقراطية وبين الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كلّ بلد؟ وهل طريق الديمقراطية يمرّ في تجزئة الكيانات وإخضاعها للسيطرة الأجنبية؟
ثمّ ما هي آفاق هذا التغيير المنشود من حيث العلاقة مع إسرائيل، وهل ستكون «الشرق أوسطية» هي الإطار الجامع لدول المنطقة، أم ستكون هناك خطوات جدّية نحو تكاملٍ عربي شامل يعزّز الهويّة العربية المشتركة، ويأخذ بالنموذج الاتحادي الأوروبي كصيغة مستقبلية للعلاقة بين الدول العربية؟.
هذه تساؤلاتٌ مهمّة وتستدعي وقفةً مع النفس العربية عموماً، والإسلامية منها خصوصاً، للتساؤل عمَّا حدث ويحدث في المنطقة العربية من أعمال عنف مسلّح تحت مظلّة دينية وشعاراتٍ إسلامية؟
فأيُّ منطقٍ عربي أو إسلامي يُفسّر الآن كيف أنّ هناك هدنة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة اقتضت وقف العمليات العسكرية ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، بينما تتصاعد موجة العنف المسلّح في عدّة دول عربية وتحت شعاراتٍ إسلامية؟! وهل هي بصدفةٍ سياسية أن يتزامن ذلك كلّه مع ارتفاع التعبئة الطائفية والمذهبية والإثنية في عموم البلاد العربية!! ففي غياب المشاريع الوطنية التوحيدية الجادّة داخل البلاد العربية، على مستوى الحكومات والمعارضات، وفي غياب المرجعية العربية الفاعلة، أصبحت المنطقة العربية مفتوحةً ومشرّعة ليس فقط أمام التدخل الأجنبي، بل أيضاً أمام مشاريع التقسيم والحروب الأهلية التي تجعل المنطقة كلّها تسبح في الفلك الإسرائيلي.
ولعلّ رؤية ما حدث في السنوات الأخيرة، وما زال يحدث، من إشعال لمناخاتٍ انقسامية داخلية في العديد من البلدان العربية، لَتأكيدٌ بأنّ ما تحقّق حتى الآن هو خدمة المشاريع الإسرائيلية في تفتيت المنطقة العربية وأوطانها إلى دويلاتٍ طائفية ومذهبية متصارعة، تكون فيها «الدولة اليهودية» هي الأقوى وهي المهيمنة على باقي الدويلات. فالهدف هو تكريس إسرائيل «وطناً لليهود» بشكلٍ موازٍ مع تدمير وانهيار «الأوطان» الأخرى في المنطقة. أمّا «الوطن الفلسطيني»، فممرّه من خلال القبول بـ«الاستيطان» و«التوطين» معاً. أي وطنٌ فلسطينيٌّ ممزّق أرضاً وشعباً.
قبل ثلاث سنوات، تردّد في «ميدان التحرير» بالقاهرة شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». ثم أصبح هذا الشعار عنواناً لانتفاضاتٍ شعبية عربية في أكثر من مكان. لكن لم يكن واضحاً في كلّ هذه الانتفاضات «كيف سيكون إسقاط النظام» ثمّ ما هو «البديل الذي يريده الشعب»، وأيضاً، ما هو الخطّ الفاصل بين «إسقاط النظام» و«عدم سقوط الوطن».
فالفاتحة كانت انتفاضاتٍ بإرادة شعوبٍ مقهورة، لكن الخاتمة اتجّهت نحو تفتيت الأوطان وتدويلها. هو الآن «زمنٌ إسرائيلي»، العربي فيه يقتل أخاه العربي.. وإسرائيل تتفرّج. هو «زمنٌ إسرائيليٌّ» حينما يسقط عشرات الألوف من المواطنين العرب الأبرياء ضحيّة صراعاتٍ داخلية بين أنظمة ومعارضين متعاون بعضهم مع قوى أجنبية. وهو «زمنٌ إسرائيلي» حينما لا يجوز الحديث عن مشاريع إسرائيل من أجل تقسيم الأوطان العربية، بحجّة أنّ هذا الحديث يخدم أنظمةً حاكمة!، ثمّ أنّ بعض قوى المعارضة العربية تعتبر أيَّ نقدٍ للتدخّل الاجنبي بمثابّة «دفاع عن النظام الحاكم»، وهي بذلك تضع نفسها في موقع المدافع عن الأجنبي ومصالحه لا عن مصالح الشعب الذي تدّعي تمثيله.
فإذا كانت الحكومات هي المسؤولة أولاً عن حال شعوبها وأوطانها، فإنّ المعارضات هي المسؤولة أخيراً عن مصير هذه الشعوب والأوطان. المعارضات تتحرّك لمحاسبة الحكومات، فمن الذي سيتحرّك لمحاسبة قوى المعارضة التي فشلت في امتحان التغيير نحو الأفضل؟!.
Leave a Reply