بلال شرارة
كنا, ونحن صغار, نحتل الحقول وكروم الميادين وخلة عيسى وحدائق
المنازل وملعب المدرسة, وكانت لعبنا غير مكلفة على الاطلاق, لا تباع فـي دكان, ولا يحملها بابا نويل فـي كيس أسراره. كانت العاباً بلدية خالصة, طبيعية وفرحة وناضجة الى حد بعيد رغم صغر سننا.
كنا ننقسم عسكرا وحرامية, أو نلعب الغميضة, أو نتبارى فـي تسلق البطمة أو أشجار التين ونتسلق السطوح, نعكر حياة العصافـير فـي أعشاشها. وكنا فـي أثناء هذا وذاك نختلف ونتصالح, ننقسم على أنفسنا أو نجتمع, وكانت جارتنا تعيّر أمي أن ابنها «علي» هو الاول فـي الصف. وان الصبي (أنا) لا يريد أن يتعلم, فهو يستمع الى أحاديث الكبار أكثر مما يفلفش فـي كتاب الفرنسية, وانه يلتصق بجده أكثر مما يقارب أبناء جيله. وكنت كذلك اسمع واحفظ اللغة عن ظهر قلب, خصوصاً ما يجري تداوله فـي جلسات الشاي من شعر وسياسة وأحاديث مجتمع, بما فـي ذلك من تزوج أو طلق أو رزق غلاماً.. الخ. كنا صغارا وكان كل منا كبيراً على طريقته.
يستأنس الى مهنة أبيه. كان «علي» يجرنا الى (منجرة) ابيه حيث نكسب بعضاً من اسرار المهنة, وكان «فريد» يسحبنا الى (حارة بيت جمعة), وكنت أفرح حين أسمع طرقات الشاكوش على بلاطة الرخام, فأتذكر «الخليل بن أحمد» وكنت قد حفظت اسمه من كثرة ما كان يتردد خلال همسات الشعر فأقوم على وقع الشاكوش والمسمار والنعل بتأليف بحور جديدة للشعر اضع بناء جديداً للغة وأضع فنونها على انغام عرق جبيننا.
كبرنا وكبرت اللعبة .. لم تعد ريفـية وطبيعية, أصبحت مصطنعة ومصنعة ومستوردة, حتى كلامها السياسي الذي كان ناضجاً ومليئاً بالحماس كان لاستدراجنا. لعبنا كل أدوارها, كيف لا وقد حفظنا منذ الصغر وعن ظهر قلب أنشودة منزلية.
«يا ماما قوليلو للبابا يشتريلي بارودي عبيها وخبيها وقوص فـيها»…
لعبنا, كانوا العسكر وكنا الحرامية. ففـي الاغنية ان نخبىء البندقية لا ان نشهرها.
فهناك استشعار الخوف والقلق بصورة مسبقة. وتراجعنا من قريتنا الى الخلف, تركنا كل شيء خلفنا, وكنا قد غرسنا «الانار» فـي أثلام الحقل, وكان زهر اللوز قد البس الاشجار ثوب العروس فـي ليلة الزفاف.
تراجعنا وافترقنا على خصومة الكبار , هكذا الامر.الهزيمة وضعتنا بمواجهة المدينة, والمدينة واجهة معروضة على شاطىء البحر. ادهشتنا وكدنا ان ننسى ان قرانا على مقربة من بيت الشمس, وانها مرتبة مثل وريقات التبغ فـي ميبر الحصاد وخيط الغلة, وانها جميلة ومغسولة ومطهرة مثل كوز التين فـي حمام الندى.
تذكرنا وكنا قد تحولنا أضحية للمدينة … تقدمنا على مذبح آلهة السياسة, حاولنا أن نخرج من الشرنقة دون جدوى , وحاولنا أن نقيم مجمعاً ريفـياً (فـي حي ماضي وصفـير) على قياس القرى فلم تنجح لعبة استحضار روح القرية لصعوبة استدراج عصافـير الدوري.
وكما هي اللعبة انقسمنا فريقين: عسكر وعسكر: نتحارب أمام أمهاتنا, نطلق الحب
من مخزون البنادق فنستحيل ركاما ونصبح اشلاء قرى اتت بها الزوابع واخذتها الرياح.
عندما كنا صغاراً, كنا نتخاصم بمد أناملنا فنختار ان نختلف ونتصادق فـي صبيحة اليوم التالي: وها نحن كباراً متخاصمين فـي اقطارنا نمد فوهات بنادقنا ونختار ان نختلف وأن نموت وأن تموت الأوطان.
هل ترانا نعود صغاراً ؟
هل ترانا نتسلق حبل البراءة الرفـيع فـي زمن الشيخوخة؟
هل ترى تجذبنا رائحة العجين الخامر وهو يثور على نار الصاج الهادئة فنتجه جنوباً؟
هل تتوقف لعبة الغميضة ونفتح أعيننا لنبصر أوطاننا : اليمن السعيد, بصرى أسكي شام , بلاد ما بين النهرين, سوريا ومجد لبنان؟
يا ليتنا نفعل, لعل بعضنا يصل الى مفرق الارياف ليتسلم راية الاوطان من عبد الرحمن الابنودي وجوزف حرب ومحمد الفـيتوري , فلا تسقط أبداً.
Leave a Reply