عماد مرمل – «صدى الوطن»
كادت حادثة الجاهلية تعيد بوسطة عين الرمانة الشهيرة إلى الخدمة. تلك البوسطة التي حملت معها الحرب الأهلية عام 1975 لاح شبحها مجدداً في بلدة الجاهلية الشوفية مؤخراً عندما دخلت قوة مؤللة من فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي إلى البلدة لاحضار رئيس «حزب التوحيد العربي» الوزير السابق وئام وهاب إلى التحقيق، بناء على الدعوى القضائية المرفوعة ضده من عدد من المحامين المؤيدين للرئيس سعد الحريري، بعد الحملة العنيفة التي شنها وهاب على الرئيس المكلف، وبلغت حدها الأقصى مع تسريب شريط فيديو له يتضمن انتقادات لاذعة للحريري ووالده، من دون تسميتهما.
منذ اللحظة الأولى لانطلاق القوة الأمنية نحو مهمتها «المريبة»، بدا أن هناك من قرر بخفة، أن يخوض مغامرة غير محسوبة، لا في السياسة ولا في الأمن، ومنذ تلك اللحظة أيضاً تحول وهاب من متهم إلى ضحية وصار الحق معه بعدما كان عليه.
لم يكن مفهوماً للكثر كيف أن مخالفة من حجم «القدح والذم» التي ارتكبها وهاب واعتذر عنها لاحقاً تستدعي اجتياح «الجاهلية» من قبل عشرات الآليات ومئات العناصر في غزوة ثأرية تجاوزت بكثير، الحدود القانونية المفترضة، في حين أن الأصول تقضي بان تتم مساءلته تحت سقف قانون المطبوعات المعني بهذا النوع من المخالفات.
على شفير فتنة
التفسير الوحيد لما جرى هو أن كلا من الرئيس المكلف والنائب السابق وليد جنبلاط وجدا في «الفاول» الذي ارتكبه وهاب من خلال تصريحاته الحادة ضد الحريري، فرصة للانقضاض عليه وتصفية حسابات متراكمة معه، إذ أن رئيس «تيار المستقبل» يريد أن يعاقب وهاب على جرأته الزائدة في الهجوم عليه، ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» يريد أن يتخلص مما يعتقد أنه «دفرسوار» لـ«حزب الله» والنظام السوري في الجبل، ما دفعه إلى تأمين التغطية الدرزية للعملية الأمنية (قبل أن يتراجع لاحقاً بعد الوقائع المستجدة ويكلف وفداً من «الاشتراكي» بلقاء قيادة «حزب الله»).
هذا «المزاج» الشخصي الانفعالي الذي تحكم بسلوك من قرر تنفيذ «غزوة الجاهلية» وغطاها، متكئا على مظلة قضائية غب الطلب، إنما كاد يفضي إلى انزلاق لبنان نحو فتنة مذهبية متعددة الاتجاهات، بين الدروز وبين الدروز والسنة، وبين السنة والشيعة، لو لم يسارع «حزب الله» إلى التدخل بكل ثقله لحماية وهاب من جهة وتفادي خطر الوقوع في هاوية الحرب الأهلية من جهة أخرى.
وقد تولى المعاون السياسي للأمين العام للحزب حسين خليل إيصال رسالة سياسية إلى الحريري تحذر من مخاطر اقتحام الجاهلية، فيما تولى رئيس وحدة التنسيق والارتباط وفيق صفا، التواصل مع قيادة «فرع المعلومات» لتأمين وقف التقدم نحو منزل وهاب خشية من حصول مجزرة لا تُحمد عقباها، خصوصاً أن أنصار رئيس «حزب التوحيد» كانوا قد انتشروا بسلاحهم في البلدة وسط تصميمهم على مواجهة المجموعة الأمنية إذا أصرت على تنفيذ المهمة الموكلة اليها.
انقلب السحر…
أوشكت الأمور أن تفلت من السيطرة بعد إصابة محمد أبو ذياب، وهو المساعد الأساسي لوهاب، إلا أن الجهد الاستثنائي الذي بذله الحزب سمح بتطويق الموقف قبل استفحاله. وما ساهم في سحب الفتيل هو أن القوة الأمنية الضاربة انسحبت من الجاهلية عقب سقوط أبو ذياب، تجنباً لردود الفعل الغاضبة من قبل أهالي البلدة.
ويبدو واضحاً من حصيلة ما جرى أن السحر انقلب على الساحر، وأن الحريري اسدى خدمة كبرى لوهاب وللفريق السياسي الذي ينتمي إليه، كما يتبين من المؤشرات الآتية:
– انتقال وهاب من الدفاع إلى الهجوم، وتحوله من مطلوب للتحقيق إلى مشروع زعيم درزي حقيقي، وهذا تحول اكتسب شرعيته وزخمه من «معمودية الدم» التي منحت وهاب تعاطفاً شعبياً واسعاً، لاسيما في وسط الموحدين الدروز، حيث عج منزله خلال أيام تقبل التعازي بالحشود الشعبية والسياسية.
– استعادة فريق «8 آذار» تماسكه وتمكنه من لملمة صفوفه مجدداً مع شعور مكوناته بأن هناك محاولة استهداف لشخصية تمثل هذا الخط، بخياراته وتحالفاته.
– تحقيق المصالحة بين الوزير طلال إرسلان ووهاب عقب قطيعة طويلة وخصومة قاسية، الأمر الذي من شأنه أن يعزز الجبهة الدرزية المضادة لجنبلاط ويقوي حضورها في الجبل وعلى المستوى السياسي.
– ظهور «حزب الله» مرة أخرى بمثابة مدرسة في الوفاء مع حلفائه بمعزل عن واقع أحجامهم، وكذلك مرجعية داخلية في الحل والربط لا يمكن تجاوزها أو فرض أمر واقع عليها، لاسيما عندما يتعلق الأمر بتوازنات دقيقة، ويسجل للحزب أنه استخدم فائض قوته لحماية الاستقرار الداخلي وكبح جماح المندفعين نحو المجهول.
والأرجح، أن وهاب يقول للحريري في قرارة نفسه: شكراً لك..
Leave a Reply