تطبيق «القانون 140» أثار حفيظة قوى «14 آذار» وفرعهم الأمني
عمر التنصت على المكالمات الهاتفية، هو من عمر استقلال لبنان، ويتطور، مع تطور «ثورة الاتصالات»، والعلوم التقنية ويعطى له الطابع الامني دائماً، لكنه يتمدد الى السياسي والمالي والاقتصادي والشخصي، ويجري استخدامه لاهداف تخرج عن الهدف الذي من اجله اعطى القانون السماح به، لجهة كشف شبكات ارهابية، وملاحقة اعمال اجرامية وتخريبية تمس الامن الوطني والسلم الاهلي.ولبنان عرف فترة التنصت، واخذ حيزاً ساسياً واعلامياً، في عهد الرئيس فؤاد شهاب امتداداً الى عهد الرئيس شارل حلو، في عقد الستينات من القرن الماضي، وقد اصطلح على تسمية تلك المرحلة، بحكم المخابرات العسكرية، «المكتب الثاني»، حيث اشتكى سياسيون وحزبيون واعلاميون وشخصيات مالية وفعاليات اقتصادية واجتماعية، من مراقبة هواتفهم الثابتة في تلك الفترة، وقد استغل جهاز المخابرات الانقلاب الذي قام به الحزب السوري القومي الاجتماعي ضد السلطة الشهابية والنظام السياسي اللبناني، لينقض في التشدد ضد الخصوم السياسيين للشهابية، في قمع الحريات، والقبض على الحياة السياسية والعامة بقبضة بوليسية وتحت ذريعة الحفاظ على الامن، وملاحقة الانقلابييين وافكارهم الهدامة، وفق مصطلحات ذلك الزمان.وهكذا عانى اللبنانيون من حكم المخابرات «المكتب الثاني»، وبدأت الضجة السياسية والاعلامية، ترتفع من مراقبة الهواتف، ورصد التحركات، وتوزيع البيانات السياسية بما سمي «الدكتيلو»، باسم سياسيين ونواب ووزراء وجمعيات، فزادت مساحة القمع والتسلط وتراجعت مساحة الحرية، وهكذا دخللبنان عصر المخابرات التي عرفتها الدول المجاورة وساعد في ذلك انه في عهد الرئيس فؤاد شهاب الذي تزامن انتخابه مع الوحدة السورية-المصرية، برئاسة الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان له مناصريه ومؤيديه في لبنان، والذي دعم انتخاب شهاب رئيساً للجمهورية باتفاق مع الادارة الاميركية آنذاك عبر موفدها ريتشارد مورفي، مما مكّن، مخابرات «الوحدة السورية-المصرية»، من ان يكون لها امتداد الى لبنان عبر ضباط في المخابرات اللبنانية ( المكتب الثاني)، فوقع لبنان تحت حكمي عبد الحميد السراج ( رئيس مخابرات الجمهورية العربية المتحدة)، وعبد الحميد غالب سفير مصر في لبنان.وكانت الفترة الشهابية في لبنان، من ابرز الفترات التي ظهر فيها نوع من «الحكم العسكري والامني»، اذ كان تدخل ضباط الجيش علنياً، وكان يتم تداول اسماءهم بين اللبنانيين، ومن ابرزهم انطون سعد رئيس الشعبة الثانية، غابي لحود، نعيم فرح، سامي الخطيب، وتصاعدت الحملة السياسية والاعلامية ضدهم ، وكان رأس حربة تلك الحملة رئيس حزب الكتلة الوطنية ريمون إده، ثم الرئيس صائب سلام ومن بعدهما الرئيس سليمان فرنجية، وكرّت سبحة الرافضين لـ«حكم العسكر» فتصدّت جريدة «النهار» له، كما تمّ تأليف مسرحيات حوله، وبدأت حركات الإحتجاج تتعاظم ضده ككرة الثلج، لا سيما بعد هزيمة حزيران 1967، وخسارة الرئيس عبد الناصر للحرب مع اسرائيل، فاستغل خصوم الشهابية الحليفة للناصرية، هذه الهزيمة، وصعٌدوا من حملاتهم على ممارسات «المخابرات»، فنشأ «الحلف الثلاثي» المكوّن من كميل شمعون وريمون إده وبيار الجميل، للتأثير مسيحياً على جماعة الشهابية واخصامهم، كما قام «تكتل الوسط» الذي ضمّ صائب سلام وكامل الأسعد وسليمان فرنجية، وتمكن هذا التكتل من أن يوصل مرشحه فرنجية إلى رئاسة الجمهورية، ووصل معه سلام إلى رئاسة الحكومة في العام 1970، واول ما قام به الأخير، كان ذهابه إلى غرفة التنصت في وزارة الهاتف، وإقفالها عبر ضجة سياسية وإعلامية، حيث فتح ملف رجال المكتب الثاني الذن فروا الى سوريا، ومنهم سعد والخطيب وبدأت محاكمتهم غيابيا، تحت عنوان الملف الأسود للعهد الشهابي، وتمّ استحضار التعذيب الذي لقيه القوميون الإجتماعيون على يد عناصر المكتب الثاني، والجرائم التي ارتكبت بحقهم، حيث تمّ تصفية 35 قومياً دون محاكمات.أقفل الرئيس سلام غرفة التنصّت، مطلع السبعينات، ولم يجر تنظيمه، ووقعت الحرب الأهلية، وعندما توقفت بعد اتفاق الطائف، عاد لبنان للوقوع تحت ما سمي «النظام الأمني اللبناني-السوري المشترك»، الذي استخدم التنصت لأسباب أمنية، ولكن في المعارك السياسية، يجري استخدامه من قبل مَن يكون في السلطة، ضد خصومه، وهكذا بدأت الشكوى من وجود تنصّت على الهواتف، وقد أثار الموضوع الرئيس نبيه بري في إحدى جلسات مجلس النواب منتصف التسعينات من القرن الماضي، وكذلك فعل الرئيس رفيق الحريري، وكانت الإتهامات توجه إلى مخابرات الجيش التي كانت تتحدث عن أنها تلجأ إلى التنصت لأسباب أمنية، فتمّ تشكيل لجنة تحقيق برلمانية برئاسة النائب سامي الخطيب صاحب الخبرة المخابراتية وتاريخ طويل في التنصت عندما كان ضابطاً في الجيش، وقد خرج بتقرير أعدته لجنة الدفاع والأمن اللبنانية، عن وجود تنصت، وأن الأجهزة التقنية الحديثة، باستطاعتها التنصت حتى على الهواتف الخلوية، وهي مقفلة، ونشأت أزمة اسمها «التنصت»، واتخذت طابعاً سياسياً، وتمّ توجيهها نحو النظام الأمني اللبناني-السوري المشترك، ودخل فيها موضوع انتخابات رئاسة الجمهورية، إضافةً إلى مسائل سياسية وأمنية أخرى، وكان الرئيس الحريري يشكو من أن مخابرات الجيش تعمل ضده، وكان يتهم أحد ضباطها العميد جميل السيد أنه هو مَن يقوم بذلك، وأعلن أنه سيعزز فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، ليزوده بالتقارير الأمنية التي كانت تحجبها عنه مديرية المخابرات، وقام صراع بين الأجهزة الأمنية، شجع عليها السياسيون، وكان كل منهم يحاول أن يكون له جهازه الأمني الرسمي، وأن يتحول هذا الجهاز إلى هذا الزعيم الطائفي والمذهبي أو ذاك.وازداد الصراع الداخلي حول دور الأجهزة الأمنية في الحياة السياسية، وقد ارتفعت حدته مع وصول الرئيس أميل لحود إلى رئاسة الجمهورية عام 1998، واعتبر الحريري ومعه وليد جنبلاط، أن لبنان اصبح تحت «حكم العسكر»، الذي لا يحبه الأخير، ولم ينتخب لحود تحت ذريعة أنه لا يرغب بوصول عسكري إلى الحكم، لكنه انتخب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.تمكن الحريري وجنبلاط بالتنسيق مع رئيس جهاز الأمن والإستطلاع في القوات السورية العاملة في لبنان، اللواء غازي كنعان، من إضعاف عهد لحود من بدايته، وبالإطاحة برئيس الحكومة سليم الحص عبر قانون انتخاب أتى بكتلة نيابية كبرى للحريري، الذي سيطر على كل المقاعد النيابية في بيروت، وعاد رئيساً للحكومة، وقرر الإنتقام من مديرية المخابرات في الجيش، واعلن في مجلس النواب حملته عليها سياسياً، وانه سيبقي عملها في الإطار العسكري، ولكن دون أن يعلن أنه سيطبّق القانون 140 الذي كان صدر في العام 1999، في عهد حكومة الحص والتي عملت على قوننة التنصت، الذي كان يرفضه الحص ويطالب بالحريات.لم يطبّق الحريري القانون 140، بل ذهب إلى تقوية فرع المعلومات، وإلى شراء أجهزة تنصت خاصة وضعت في قريطم، تحت حجة أنه لا يطلع على التقارير الأمنية، وهكذا فتحت المعركة من جديد وتحت عناوين شتى، وكان التركيز على ممارسات النظام الأمني اللبناني-السوري المشترك، وتدخله في الحياة السياسية، وملاحقة بعض الصحافيين، وكل ذلك كان يجري تحت عنوان انسحاب القوات السورية من لبنان، وقاد هذه الحملة جنبلاط بخطاب ألقاه عام 2000 في مجلس النواب، وارتفعت المطالبة بخروج هذه القوات، بعد الإحتلال الأميركي للعراق، والإستفادة من التحولات الدولية، وصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي والذي قدمته فرنسا والولايات المتحدة الأميركية.وبعد اغتيال الرئيس الحريري، وانسحاب القوات السورية، ووضع لبنان تحت الوصاية الأميركية، وتسلم قوى «41 آذار» للسلطة عبر الأكثرية النيابية التي حصّلتها في الإنتخابات عام 2005، تحركت السلطة الجديدة باتجاه اجتثاث النظام الأمني السابق، وتركيب نظام جديد باشراف أميركي وفرنسي، من خلال الإستعانة بـ«الأمن الأميركي» (اف.بي.آي)، والأمن الفرنسي ، وتمّ استبعاد مخابرات الجيش عن أي عمل أمني وحصر مهمتها بالشق العسكري واستبدل ضباطها، واستحدث فرع المعلومات ورصدت له موازنة ضخمة، وتمّ تسليمه إلى المقدم وسام الحسن وهو المعروف بعلاقاته السياسية وارتباطهمع «تيار المستقبل»، وهكذا وقع لبنان تحت حكم هذا الفرع أو الشعبة، التي قيل انها غير قانونية، لأنها لم تنشأ بقانون، وبدأت تكبر مهامها، تحت حجة ملاحقة جرائم الإغتيال والتفجير، التي ارتكبت، وتحوّل عملها إلى ملاحقة حلفاء سوريا الذين لم يبدلوا مواقفهم وبقوا على ثباتهم، وبدأت تلصق بهم تهمة أنهم يقفون وراء عمليات الإغتيال والتفجير، وتحديدا الاحزاب والجهات السياسية، التي تقوم بذلك دون تقديم أدلة، بل الإشارة إلى أن الإتهام سياسي، حيث بدأت عناصر شعبة المعلومات أو فرعها، بالتنصت على المعارضة والقوى والشخصيات الحليفة لسوريا، وترصد تحركاتها وترفع تقارير بها، وتستدعي عناصرها للتحقيق مستظلين لجنة التحقيق الدولية برئاسة ديتليف ميليس الذي تبين أن تقاريره كانت غير صحيحة ومن صنع شهود زور كمحمد زهير الصديق وهسام هسام، وهكذا دخل لبنان التنصت والحكم الأمني ولكن هذه المرة من باب فرع المعلومات، الذي نسب إليه سياسيون أعمالاً من خارج القانون، وانتقدوا انشاءه وطالبوا بحله، وسألوا عن موازنته وعن العناصر التي ألحقت به، حيث ذكر أنه كان يستعين بأمنيين حزبيين من الموالاة لا سيما من الحزب التقدمي الإشتراكي وتيار المستقبل والقوات اللبنانية لتزويده بالمعلومات والتقارير، وقد استخدم فيها «الكيد السياسي» والأخبار الكاذبة، وتمّ وضع اليد على التنصت من خلال وزارة الإتصالات التي كانت في عهده مروان حمادة.وبعد أحداث أيارا الماضي، وتمكن المعارضة من أن تكون شريكة في حكومة وحدة وطنية، وتسلم جبران باسيل وزارة الإتصالات، فتح ملف التنصت، الذي سأل عنه في مناقشة البيان الوزاري للحكومة النائب بهيج طبارة، الذي طالب بتطبيق القانون 041، ووضع المراسيم التطبيقية موضع التنفيذ، وهذا ما فعله باسيل، الذي كفّ يد الأجهزة الأمنية عن التنصت دون سند قانوني واذن قضائي، حيث تبين له، أن هناك حوالي 22 ألف مهمة تنصت ليس لأسباب أمنية فقط بل لاعتبارات شخصية وسياسية، وقرر وضع حد لذلك، فقامت قوى «14 آذار» ضده، وتصدّر الحملة النائب وليد جنبلاط بسؤاله عن وجود ضابط من الجيش يعمل في وزارة الإتصالات، وكرّت حملة الإنتقادات على الوزير باسيل واتهامه انه حوّل غرفة في وزارة الاتصالات إلى التنصت، وكل ذلك لأسباب سياسية وانتخابية، لإضعاف «التيار الوطني الحر» ليخسر الإنتخابات، ولحجب ما قام به وزير الإتصالات من تخفيض للإشتراكات على الهاتف، وإصلاحات في الوزارة.ففي أيار الماضي، سأل جنبلاط عن شبكة اتصالات حزب الله، وطالب بوقفها، وحصل ما حصل من أحداث أمنية، وتحولات سياسية، وهو الآن يكرر السؤال ولكن عن التنصت في وزارة الإتصالات، وكان الجواب، عبر الإجتماع الوزاري الذي عقد في السراي برئاسة رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، أن ما يقوم به الوزير باسيل هو تطبيق القانون 140، وضبط التنصت وعدم تركه مشاعاً لأجهزة أمنية، ولا يستخدم لحفظ الأمن، بل يتم توظيفه سياسياً ومالياً وشخصياً.فملف التنصت الذي عمره في لبنان حوالي نصف قرن، ويفتح في كل مرة في ظل المعارك السياسية والانتخابية، كاد أن يشكل فضيحة «ووترغيت» لبنانية، لأن ما كشفه الوزير باسيل أنه حصل على تقارير عن الإرتكابات التي حصلت منذ أربع سنوات في التنصت وعبر فرع المعلومات، سيشكل فضيحة كبرى، وقد حاول فريق «14 آذار» الغمز من قناة المحكمة الدولية وتعطيل عملها، وعدم تزويدها بالمعلومات فكان الرد عليه، أن كل المعلومات هي في عهدة لجنة التحقيق، وأن الجانب الأمني مؤمن عبر القانون وتستطيع الأجهزة الأمنية استخدامه.فبعد الفشل في شبكة اتصلات المقاومة، ها هي قوى «14 آذار» تخسر معركة التنصت الذي كانت تستخدمه لاهداف سياسية واغراض شخصية، ليس أمام باسيل فقط، بل أمام الوزراء المختصين الذين أيدوه تطبيق القانون، كما دعموه بوجود الضابط دانيال نعمة في مهمة من قيادة الجيش لعمل يفيد الدولة اللبنانية في موضوع السطو على المخابرات الدولية من جهات غير رسمية، وهو ما افاد به وزير الدفاع الياس المر الذي اكد وجوده الضابط بمعرفته واذن منه، ومن قيادة الجيش، ويدحض ما روّج له جنبلاط عن عمل هذا الضابط واعترف ان ما يحصل هو تطبيق القانون ولا يعمل في التنصت.
Leave a Reply