يا حادي العيس، سلّم لي على لبنان وأرضه وأمهات وأهل الأسرى والشهداء لأني لا أملك إلا أن أنحني وأبوس أرجل هؤلاء الشهداء الكرام. لا أملك إلا أن أنحني ولو من بعيد أمام قافلة الشهداء الأبرار الذين عادوا للتربة التي داستها أقدامهم المباركة للعبور إلى الأرض المحتلة، لتطهيرها من دنس الإحتلال وعربدة الصهاينة. لا أملك إلا الإنحناء إجلالاً وإحتراماً أمام هذه الأجساد الطاهرة التي مسحت بدمها الطاهر النبيل بعضاً من الهوان والذل المترسب في صدورنا المتورمة بالنكسات والهزائم والإستسلام وعمليات الخيانة والغدر.
بكل كبرياء وخشوع كان هؤلاء الأحبة الشهداء ينسلون من بيننا في عتمة لم يخافوا لياليها، إلى شهادة غير بعيدة عنهم، ليضيئوا شمس الحرية. شمس الحياة، لوطن مسلوب الإرادة من زعمائه وأزلامهم، أمراء الحروب وملوك الميليشيات المتآمرين دوماً، في الخفاء وفي العلن، لحرق لبنان وتقطيع أوصاله كما يحلو لهم.
يحزّ في النفس أن زعماء أمم الدنيا كلها تسخرّ كل طاقاتها من أجل خدمة أوطانها وإعلاء شأنها، إلا أسيادنا اللصوص في لبنان، إنهم يسعون للمراكز والكراسي ومؤخراً للشنط الوزارية، للسمسرة والحربقة والزعبرة على حساب الشعب المسكين الهاتف دوماً لهم، بالروح بالدم، وحاضر زعيم!!
هل تصاب مثلي بغثيان وبقشعريرة حين تقرأ الصحف والجرايد؟ هل تشد شعرك وتتأزم حين تسمع الأخبار؟ هل تتمنى لو تسكن في بناية من عشر طوابق، لترمي بنفسك بعد مشاهدة زعماء وطنك البعيد الزعماء في الغش والكذب ذوات الخمس نجوم في الفذلكة والضحك على ذقوننا نحن اللبنانيون أينما كنا؟؟ هؤلاء أصحاب السعادة أمراء الحروب من داحس والغبراء حتى اليوم. أباً عن جد. يتحكمون في رقاب آباء آبائنا، يطلون بكل سماجة وصفاقة على شاشات التلفزة والإذاعات والإنترنت والصحف، يمدون بألسنتهم الطويلة الفاجرة، المتحدثة بلغات العالم كلها قائلين لنا: أن موتوا وطقوا بغيظكم أينما كنتم، ها نحن باقون كجرثومة الطاعون.
قد يعقل المرء أي شيء. ما يُصدق ولا يصدق، لكنه لا يمكن أن يعقل هذا الذي يحدث في لبنان. هذه الزعامات سواء القديمة قدم يأجوج ومأجوج، أو الزعامات الحديثة حداثة العولمة والفياغرا السياسية التي تلعب على الحبال وتتبع الموضة الدارجة من سمسرة وزعرنة وتهريب وإحتكار لخدمة الوطن والمواطنين.
هذه الزعامات والبلاءات وتجار الشنطة التي لا يربطها رابط ولا يجمعها جامع، دائماً مشغولون ومنهمكون بالدسائس لبعضهم البعض، ألا يخجلون، ألا يشعرون بالعار والشنار وهم يتشاجرون كالأولاد الصغار قبل إنتخاب رئيس للجمهورية، وقبل تأليف الوزارة، والآن إختلافهم على البيان الوزاري، وما يجب أن يقال ولا يقال. ألا يتمنون لو تنشق الأرض وتبلعهم، أمام عظمة وكبرياء هؤلاء الشهداء الكبار؟؟
هؤلاء الساسة اللبنانيون، سماسرة الماضي والحاضر والمستقبل الفرحين بإطلالاتهم على التلفزيونات متأبطين أولادهم، زعماء المستقبل ومحتكريه. ألا يرمون في أعينهم حصوة ملح، ويقولون لذواتهم المتضخمة جهلاً ودماً وطائفية، ويذكرون أنفسهم المتعفنة صبحاً ومساءاً: أنه لولا دماء أولئك الشهداء الأبرار وأجسادهم الطاهرة التي عادت اليوم لترتاح في تراب الوطن فتزيده طهراً وقدسية! لولا تلك الأجساد الكريمة والدماء الزكية لما كانوا اليوم يجثمون على بطن الوطن وظهره فيحجبون عنه نور التقدم والإزدهار، ويبقونه أسيراً لطموحاتهم الضيقة من نيابة أو وزارة، ولجيوبهم الواسعة لكل يورو ودولار وبارة! ويجعلون من لبنان الوطن الصغير الجميل مجرد شنطة يتناطحون عليها كلما اجتمعوا على فنجان قهوة وسيجارة!!
هل يحدث هذا كله من أجل السلطة؟ السلطة على من؟ كيف يطالبون بالسلطة والحكومة وبعض الايدي منهم غارقة في الإثم والعدوان وشرور الزمان. والبعض منهم في خياله المريض النصف كُمْ، يظن نفسه أكبر من اللبنانيين كلهم ومن لبنان!
نعم، يحدث هذا في زمن التيه والجنون الذي نحياه، وقلة الوفاء والحياء خصوصاً أن بين أولئك الزعامات المهترئة، أسيرة الطائفة والكبرياء، والعظمة الفارغة كالتنكة، من أصحاب النظرة الواقعية، والمعجبين بالإمبراطورية الأميركية العديمة الديمقراطية، لا يتورعون عن وصف البعض من أولئك الشهداء وطلائع مقاومتهم للإحتلال وللظلم، لا يتورعون عن وصفهم ووصف شهدائهم بالإرهاب.
بكل خشوع وسكون، أتمنى لو أستطيع أن أقبل تلك الأقدام الطاهرة، قدم كل شهيد وشهيدة لأي فئة انتموا. أبارك خطواتهم الواثقة التي طهرت جنوب لبنان وشريطه الحر العاملي المبارك من دنس إسرائيل وأذنابها. أسأل تلك الأرواح الملائكية عسى أن يغفروا لنا جميع حمقنا وبلادتنا ومحاولاتنا البائسة للنأي بأنفسنا عنهم، والتبرؤ منهم كلما صاح ديك. وكسلنا عن إكمال طريق بناء الوطن الحر المستقل الذي كانوا هم أساسه المتين القوي.
لاشك اننا نحمّل شهداءنا وأبطالنا الأموات الأحياء حين نطلب منهم أن يغفروا لنا تقاعسنا وجبننا وعدم خجلنا، فقد نشّف وجفّف الزعماء، أصحاب النهي والأمر الماء في وجوهنا، وجعلوها سوداء كأيامنا وليالينا سواء كنا هناك في لبنان أو هنا في المهجر، عبر نطاحهم المستمر لبناء دولة القانون والمؤسسات.
بالله، أسألك يا حادي العيس: سلّم لي على أمي واحكي لها ما جرى وأشكي لها هي. وقل لها: ستبقين يا أمي أجمل الأمهات المنتظرات جثمان إبنك الشهيد!!
الإنتظار كالأمل يا أمي يجدّد التفاؤل بأن يكون جسده الطاهر بين هذه القوافل من الشهداء الذي يسعى نورهم بيننا لنستحي ونشعر بالخجل أمام عطائهم وبذلهم الغالي في سبيل أن يبقى لبنان.
إبنك الشهيد يا أمي يكفيه شرفاً وكرامة، إن جسده صار حبة تراب في تربة الوطن ودمه نقطة ماء الحياة لتروي عطش ذلك التراب! هل أعظم شرفاً وفخراً يا أمي، أن تكوني أماً لتراب لبنان، كل لبنان، لبنان الحبيب الغالي مثلكِ ومثل الشهداء الأحرار الأبرار جميعاً، لبنان الذي وإن طال الزمن، لاشك انه سوف ينهض ويتحرر من أسر لاعبي السيرك، ساساته الأغبياء المختلين نفسياً وعقلياً، ويرميهم في سجن الغباء الذي لا شك أنه يليق بهم ليهلكوا بعضهم بعضا بعد أن ذبحونا ولعنوا سلسفيل جدودنا.
في دولة لبنان الكبير، كلٌ يغني على ذوقهِ بعدما اختلفت وتفرقت العير، فيا حادي العيس، أسكتْ!!
Leave a Reply