مع أن الجميع يمقتها ويتبرأ منها في العلن، إلا أن الطائفية تلعب دوراً جوهرياً في أغلب علاقتنا الاجتماعية ومواقفنا السياسية، وحتى مصالحنا الاقتصادية. وإذا كان كل واحد منا ينكر أنه طائفي فمن الصعب على هذا الأحد أن ينكر أننا نعيش في زمن تتفشى فيه الطائفية حتى النخاع، وإذا كنا غير طائفيين، فمن أين أتت الطائفية إذا؟
الطائفية لا تقتصر على جماعة معينة أو طائفة بذاتها بل تنتشر حماها لتطال كافة أطياف المجتمع الواحد بإختلاف أديانه ومذاهبه، وتؤججها وتنشر بذورها، بهدف خدمة مصالح معينة، الوسائل الإعلامية المكتوبة والمرئية والمسموعة ومنابر المساجد والكنائس وسلطة الدولة، بشكل مباشر وغير مباشر.
وأن يصبح الإنتماء الى الطائفة على حساب الإنتماء الى المحيط الأكبر، كالوطن مثلاً، عنصراً أساسياً في هوية الكثيرين من الناس لهو أمر في غاية الخطورة، كما هو حال لبنان مثلا الذي تنبني دولته بصيغتها السياسية والاجتماعية على محاصصة طائفية أرست قواعدها مفاصل هامة في تاريخ البلد الغارق بالخلافات والتجاذبات السياسية، المحلية والإقليمية والدولية، وصولا الى الحرب الأهلية التي زاد أمدها عن العقد ونصف.
وخطورة تفشي الطائفية أمر يدركه اللبنانيون أكثر من غيرهم، رغم أن بلدانا عربية أخرى ليست بعيدة عن المناخ. فقد كان لبنان أول مسرح لهذه الهويات الفرعية التي قادت إلى صراعات أودت بحياة مئات الآلاف من اللبنانيين وتهجيرهم، ونلاحظ كيف إنتقلت هذه الحمى لتلون الثورات العربية وتخطف منها شعار “الشعب يريد اسقاط النظام الدكتاتوري الحاكم” الى شعارات حزبية وطائفية ومذهبية على حساب الوطن والدولة المدنية التي يتساوى فيها الجميع، لدرجة أصبح معها الحديث عن السياسة دون المرور بالدين والطائفة والمذهب أمرا مستحيلا.
وأميركا، تحديدا في المهجر العربي في منطقة ديترويت، من الصعوبة اكتشاف الداء الذي نخر مجتمعاتنا وراء البحار لنجد أنه أصاب الجاليات العربية عموما، واللبنانية بكافة طوائفها على وجه الخصوص.
وكالعادة، يتنكر الطائفيون للطائفية في العلن بينما يمارسونها في الخفاء أو أمام من هم من ملتهم دون خجل. وواقع الحال يظهر أن الطائفية اليوم أبعد في التجذر من أي وقت مضى، حيث تتجلى حدة الخلافات بين المذاهب الإسلامية المتعددة أو بين المذاهب المسيحية، أو بين الأديان عموماً.
هل هو صراع سياسي يتلطى بغطاء ديني، أم أنه صراع ديني يجد لها ساحة في السياسة؟ مهما يكن فإن هذه الصراعات لا تنذر سوى بخراب وحروب بدايتها تنتظر إشعال الفتيل المحتقن، ونهايتها بلا ريب ستكون وخيمة النتائج على كافة الأطراف والصعد.
هل أنت طائفي؟ نسأل عينة من أبناء الجالية العربية في مدينة ديربورن ومحيطها ونستثني أصحاب القرار والسلطات الدينية الذين نعرف ردهم مسبقاً!
الإضطهاد حجة من لا حجة لديهم
لم تعرف سيرين، 21 عاما، لأي طائفة تنتمي إنتقلت من بلدها الأم سوريا إلى أميركا لتعيش في ديربورن. وتقول: “كان أصدقائي في المدرسة يسألونني عن إنتمائي الطائفي ولم أكن أعرف بماذا أجيب. فعلى حد علمي أنني فتاة مسلمة لا أكثر ولا أقل”. وتضيف: “عرفت من أبي لاحقا أننا من الطائفة السنية وحتى الآن لا أعرف الفرق بين المذاهب الإسلامية، إلا أن السؤال يطرح علي بصورة دائمة بمناسبة وبدونها”. وتستغرب سيرين مدى تجذر العصبية الطائفية في مجتمع ديربورن، حتى بين الجيل الشاب من أبناء الجالية، وتقول: “أصدقائي يجاهرون بإنتماءاتهم المذهبية في العلن ودائما أسمعهم يرمون باللوم على المذاهب الأخرى معتبرين أن تمسكهم بطائفتهم سببه محاولة الطوائف الأخرى التضيق عليهم وإضطهادهم”.
صحوة الطفل الطائفي فينا
من ناحيته، يعتقد رامز، وهو لبناني وبالتالي خبير بالطائفية، أن “لدى كل إنسان نزعة طائفية تولد معه وتتجذر مع مرور الوقت، مثلها مثل الإنتماء الى الوطن والأرض والعائلة”. فالطائفية، حسب تعبيره، “هي وليدة البيئة الإجتماعية والتربية العائلية”. ويقول: “إن التمييز العنصري الذي يعيشه المسلمون في أميركا، غذى فينا النزعة الطائفية والتعصب الديني. فالسياسة الأميركية المعادية للإسلام، والتي كانت في وقت مضى تمارس إرهابها على الإفريقيين الأميركيين وغيرهم، جعلت منا مكسر عصا ومحطة لتقاذف الإتهامات العنصرية”.
ويضيف: “الإرهاب الذي إبتكرته ومولته وإحتضنته السياسة الأميركية والغربية عموما، أيقظت فينا، نحن المسلمين، الطفل الطائفي النائم”.
ويشير رامز الى مدى خطورة الحرب الطائفية التي ترزح تحت نيرانها الأوطان العربية والتي بإسمها يقتل العربي أخاه العربي وتغتصب حرمة البيوت والكرامات.
اللبنانيون ضحية النظام الطائفي أم صانعوه؟
أما محسن، وهو لبناني أيضا، فيعتبر نفسه غير طائفي الى أقصى الحدود ويوجه أصابع الإتهام الى رجال الدين الذين يغذون الطائفية في سبيل تعزيز مكانتهم الإجتماعية والإبقاء على سلطان سلطتهم بين الناس، حسب تعبيره. ويقول: “ينتمي الناس الى الأحزاب الدينية من أجل حماية مكانتهم الإجتماعية وبسبب غياب الأحزاب البديلة ذات الثقل الفعلي على الأرض”.
ويشير الى أن الشعب اللبناني، عموما، هو أكثر الشعوب المتعصبة طائفيا ومذهبيا، ويقول: “للأسف، يحمل اللبنانيون تعصبهم الأعمى لطوائفهم الى أميركا ويمارسون التمييز على أفراد المجتمعات الأخرى تحت عناويين متعددة، أكثرها يظهر عن طريق إتهام الآخرين بالعداء الضمني لهم متمسكين بحجة تاريخ الإضطهاد الذي عايشوه على امتداد التاريخ”.
والأدهى من ذلك، برأي محسن، هو أن بعض القيادات الحزبية التي انتقلت للعيش في أميركا، مع أنها كانت قيادات من الدرجة الرابعة أو الخامسة، إلا أنها أصبحت ملكية أكثر من الملك وتنشط حزبيا انطلاقا من قناعات فئوية ضيقة، وهذه القيادات بحسب محسن “هي أقل الناس وطنية وأكثرها تعصبا ومذهبية وإلا فلماذا يستمرون في ولائهم الى أحزاب طائفية في بلد غير طائفي؟”. ويضيف: “إن عجز هذه القيادات عن أداء وإنجاز مشاريع تفيد الجالية اللبنانية، لهو أكبر دليل على أنهم أفراد عاجزون وتافهون، يتلطون تحت عباءة حزب ما ويحاولون خلق مكانة إجتماعية لأنفسهم”.
ويسخر لبيب، وهو لبناني أيضاً، من هؤلاء الذين ينكرون وجود الطائفية بين اللبنانيين في منطقة ديترويت، ويقول “ألهذا يتجمع المسيحيون في منطقة وورن وستيرلنغ هايتس بينما المسلمون في منطقة ديربورن وديربورن هايتس؟”. ويقول “الطائفية ليست إختراع لبناني.. ولكننا نحن أول من مأسسها”..
من المستفيد؟!
من ناحيته، يجد وليد السوري في “المحبة عنوانا لكل شيء في الحياة، فمشاعر الحقد والكره هي التي تفرق بين الشعوب وتجعل من الإنسان حيوانا كاسرا ينهش لحم أخيه دون أن يرمش له جفن”. ويعتبر نفسه قومياً حتى العظم، ويقول “العروبة تجري في عروقي ووجداني”، ويضيف ممازحا في هذا السياق: “أنا طائفي.. فقط عندما يتعلق الأمر بطائفة العروبة”.
وعن الطائفية يقول: “المستفيدون من تعزيز مشاعر العصبية القبلية والمذهبية الحاقدة هم المشايخ والسياسيون، يليهم تجار السلاح”. ويصر على أن “كل من يتبع هؤلاء فهو إنسان يعاني من نقص في عقله وحكمته، وأما العاقل فيتذوق المرارة ويشعر بالغربة حتى وهو بين أبناء وطنه وأمته”.
الطائفية والحروب.. طريق باتجاهين!
عاشت حنان الكلدانية في العراق الى أن إحتلت أميركا بلدها، فرحلت عنها لتعيش في عقر دار الغزاة الأميركيين، ومع ذلك لا يوجد في قلبها عداء ضد الأميركيين بل تكره ما سمته “المسلمين الذين يمارسون القتل والمذابح” بحق أبناء طائفتها بإسم الإسلام حسب تعبيرها. وتقول: “كنا في العراق إخوة وأحبابا لكن الحرب الأخيرة خلقت الطائفية والعصبيات وشرعت قتل العراقي لأخيه العراقي الآخر تحت شعارات دينية ومذهبية”. وتضيف: “لقد شهدت بأم عيني ذبح ثلاثة شبان من أبناء إخوتي من قبل متطرفين مسلمين، والسبب هو لأنهم مسيحيون”.
وتتسائل حنان “كيف لي أن لا أكن العداء لمن يحاربني ويحارب أهلي وأبناء طائفتي؟”، وتؤكد أنه قبل الحرب الأميركية على العراق كان الناس يعيشون في سلام ووئام مع بعضهم البعض بحيث كان يجمعهم ظلم الحاكم الواحد ولكن بدون فتن طائفية وكراهية عمياء..
وتعتبر ناتالي، وهي عراقية كلدانية أيضا ولكنها ولدت في أميركا، أن الطائفية المذهبية والدينية تغذيها الحروب التي تخلق بدورها “الناس البلطجية” الذين يمارسون أعمال القتل والترهيب والعنف تحت غطاء ديني، الأمر الذي من شأنه دفع الأقليات نحو التعصب والتمسك بأديانهم وطوائفهم.
وتقول: “هنالك فهم خاطئ عند الأقليات المذهبية لما يجري على أرض الواقع من حروب تسمى طائفية ولكنها في العمق تخدم المصالح السياسية العليا لا أكثر أو أقل”. وتضيف: “للأسف إن التعصب والحقد ليس سمة الجيل القديم من الناس فحسب، بل إجتاحت هذه المشاعر المعادية للأديان الأخرى الجيل الجديد وهو أمر ينذر بخطورة الأيام القادمة”.
لو فينا نبيدهم ما قصّرنا!
وفي سياق آخر، يعبر عماد عن سخطه من الطائفية الواضحة المعالم في مجتمع ديربورن على نحو مؤسف، ويقول: “أنا لا أفهم لماذا يدخل زبون عربي متجرا يرفع يافطة واضحة مكتوب عليها “اللحم حلال” ولكنه يصر أن يسأل صاحب المتجر (الذي يعرف أنه من طائفة أخرى) في كل مناسبة، ومرارا وتكرار، إذا كان اللحم الذي يبيعه حلالا أم لا؟!!”.
ويعلق عماد على حادثة، حصلت معه مؤخرا، وأثارت إشمئزازه وغضبه، فقد دخل إحدى المتاجر في منطقة ديربورن لشراء بعض الحاجيات وإذا بأحد الزبائن يحادثه عن زعماء عرب ويقول عنهم أنهم “أرذال”، فوافق عماد محدثه الرأي وقال له: “الله يكفينا شرهم”. ولكن الزبون استطرد في حديثه ليضيف: “هذه الطائفة كلها أرذال ولو كان بإستطاعتنا أن نبيدها لما قصرنا!”.
أصيب عماد بالصدمة جراء حديث الزبون المجهول، فهذه الطائفة التي يريد أن يبيدها هو واحد منها!..
هذه العينة تشكل حيزا صغيرا من الآراء والذهنيات المتجذرة في المجتمع، فيتفق أكثرية الناس على أنهم غير طائفيين في حين يصوبون أصابع الإتهام على الطرف الآخر الذي يتهمونه بالتعصب والرجعية. فقد تكررت فكرة نفي الطائفية من قبل معظم الأشخاص الذين وقفت “صدى الوطن” على آرائهم وكانت الفكرة الأساسية تتمحور حول: “أنا لست طائفيا ولكن هم (أبناء الطوائف الأخرى) الطائفيون” و”هم يكرهوننا” و”هم من يكنون لنا العداء”!..
الطائفية ليست مستشرية فحسب، بل إنها أصبحت.. كلمة السر التي تحدد طبيعة اللقاءات والأحاديث بين الناس العاديين في الشارع وفي العمل وفي السهرات، وإذا ما حضر شخص غريب مع شلة أصحاب ومعارف وزملاء عمل وجيران… تكون معرفة طائفة ذلك الشخص، مباشرة أو مداورة، جديا أو هزليا، صراحة أو إيماء، هي المفتاح لاستكمال “النشاط” وتوجيه دفة الحديث!
Leave a Reply