بدأت الشمس تشرق في سماء ديربورن، وهذه بشارة حارة لإنقضاء شتاء بارد وطويل هذه السنة. إشتكى منه الناس وتضايقوا من برده وثلوجه ولياليه المظلمة وأيامه الغائمة دوماً.
في العمل وفي الشارع وفي الدكان وفي السوبرماركت، تسمع عبارة يا عمي شو هالصقعة؟؟، إيمتي بدو يخلص البرد؟؟.. إزهقنا من الثلج!!!
هذا هو حال الإنسان، لأنه بعد شهر من الآن، سوف نسمع النق والشكوى من «الشوب» والحرارة والرطوبة. رغم وجود التدفئة المركزية والتبريد العالي الجودة في البيوت والسيارات والمتاجر. ما في حدا بيحمد ربّو!.
وما أسمعه من نقّ البعض وشكواهم المستمر، كل هذا يذكرني بأيام الشتاء الباردة في قرى جنوب لبنان، البرد القارس القاسي في بيوت بسيطة، معظم سقوفها من الطين. هذا منذ أكثر من خمسين سنة، حيث الماء والكهرباء غير متوفرة، والمحظوظ كان من لديه حطب يكفيه طوال ليالي الشتاء القارسة. والمحظوظ أيضا من لديه «ساكو»، أي معطف اشتراه من البالة، يقيه البرد عند اضطراره للخروج من بيته. أيضاً كان الأكل بسيطاً وقليلاً، فلم يكن هناك «سايل» ولا «وايلد وينزداي» ولا براد مليان وثلاجة مزروكة بالدجاج واللحم والسمك. نيالو من لديه شوية دحروب وفّرها من تينات الصيف، أو من باستطاعته شراء زنبيل تمر يكفيه طوال الشتاء.
كان معظم الأكل نباتياً، بقلة حمص، بقلة فول، مجدرة، كبة عدس، كبة بطاطا، شوربة عدس.. وغيرها من الأكلات البسيطة، والتسلاية بلوطٌ مشوي. وكان لكل لقمة خبز قيمة وإحتراماً. نشأنا جيلا يعرف قيمة الطعام ولا يتكبر عليه، والكل -كل العائلة- يجلسون حول المائدة. يبدأون بإسم الله، وينتهون بالحمد لله رب العالمين.
لا شك أنها كانت «أيام عزارة» وبؤس مقارنة بهذه الأيام التي نعيش. ولكنها كانت أيام بركة. فرغم البرد والزمهرير في الشتاء، وعدم وجود أي وسيلة راحة في بيوت القرى، ولا حتى حمامات لقضاء الحاجة أو الإستحمام. لم يكن أحد يتذمّر وينقّ.
معظم البيوت تتألف من غرفتين يعيش فيها الأب، الأم وفريق من الأولاد. المرحومان أبي وأمي أسقطوا في هذه الدنيا تسعة أولاد. وأحيانا تعود بي الذاكرة وأتساءل: كيف عشنا وكيف كبرنا؟!، تسعة أولاد وأب وأم في بيت من غرفتين، ونصف غرفة تعيش فيها كم عنزة وكم دجاجة وديك وحمارة وبقرة كحلة. كان أبي شايف حالو إنه يملكها، بينما غيره من الفلاحين لا يملك بقرة أو حمارة!.
رغم ذلك، عشنا وكبرنا. والشيء الذي يذهلني هو أنه لم نذهب للطبيب ولم نحتجهُ. لم يكن هناك تلقيحات و«فلو» خنازير و«فلو» بطيخ… كنا نمشي للمدرسة لأكثر من نصف ساعة في البرد والحر والربيع والخريف، ونشرب من مياه عين الضيعة، وبعض الناس يغسلون الأواني في بركة البلدة، التي تشاركناها مع دواب الضيعة. لم نسمع أبدا أحدهم مات من شرب الماء أو أصابه الإسهال.
كنا نأكل الخبز الأبيض والزبدة واللبن الرائب الكامل الدسم والزيت والزعتر وعروس اللبنة مع السكر. ولم نكن نسمع بالكولسترول والسكري وأمراض القلب.
كم لعبنا في الساحات والدروب وتسلقنا الحيطان والأشجار دون خوف. لم نكن قد سمعنا بعد أن أحدا اغتصب طفلة أو طفلا، ولم نكن نخشى الغرباء.
ألف رزق الله على تلك الأيام، وألف سلام عليها. رغم الفقر والتعاسة والحياة الصعبة مقارنة بهذه الأيام التكنولوجية. يكفي أنه كان هناك وطن وبيت وأسرة وأدب، ونشأنا وتربينا على أن الأدب فضّلوه على العلم.
العلم موجود الآن وبكثرة، لكن قولوا لي.. ماذا عن الأدب؟!!.
Leave a Reply