هو أمرٌ سيءٌ ومؤسف هذا التهميش العربي الحاصل الآن للقضية الفلسطينية، بحجّة تفاصيل الأوضاع الداخلية والصراعات العربية البينية القائمة حالياً. ولعلّ بعض الشواهد التاريجية مهمّة لتأكيد عدم الفصل بين القضايا العربية الداخلية وبين الصراع العربي–الصهيوني: فالعدوان الثلاثي الإسرائيلي–الفرنسي–البريطاني على مصر في العام 1956 حدث لأنّ جمال عبد الناصر قام بتأميم شركة قناة السويس لأسباب داخلية مصرية. أمّا في لبنان، فقد بدأت فيه حربٌ أهلية دامية وطويلة في العام 1975 ارتبطت بمسألة الوجود الفلسطيني على أرضه، الوجود المسلّح وغير المسلّح. ففي لبنان يعيش مئات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين المسؤولة إسرائيل والغرب عن تهجيرهم من وطنهم وأرضهم لأكثر من ستّة عقود، ولا حلّاً قريباً لمشكلتهم، وبالتالي شكّل هذا الوجود الفلسطيني عنصرَ تأزّمٍ دائم في الحياة السياسية اللبنانية، القائمة أصلاً على أوضاع خاطئة مهدّدة دائماً بالانفجار. فهل يمكن أن يشهد لبنان استقراراً دون حلولٍ عادلة لحقوق الشعب الفلسطيني؟ ثمّ أليست أوضاع سوريا والعراق والأردن ومصر مشابهةً أيضاً للحالة اللبنانية، وهل يمكن عزل القضايا الداخلية في هذه الدول عن مجريات الصراع العربي مع إسرائيل والمشاريع الأجنبية الداعمة لها؟ ألم يكن تفكيك السودان مؤخّراً ومحاولات تقسيم سوريا والعراق ولبنان وغيرها من دول المنطقة مصلحةً وهدفاً إسرائيليين يتمّ العمل لأجلهما منذ حصول نكبة فلسطين قبل سبعة عقود؟.
أليس كذلك هو حالُ كثيرٍ من الدول العربية التي يرتبط الاستقرار السياسي والاقتصادي فيها بمصائر الحروب والتسويات مع إسرائيل؟! أليس أيضاً تحجيم التدخّل الإقليمي الإيراني والتركي في الشؤون العربية أمراً يرتبط في مستقبل القضية الفلسطينية وما لهاتين الدولتين من علاقات وتأثير في الصراع العربي مع إسرائيل؟
فلسطين كانت أوّلاً في «وعد بلفور»، قبل تقسيم المنطقة العربية في «سايكس بيكو» مطلع القرن العشرين قبل مائة عام. وفلسطين كانت أوّلاً في حروب «الإفرنج» قبل ألف عام. وفلسطين كانت أوّلاً في معظم صراعات المنطقة خلال القرن الماضي.
ففي منطقةٍ عربية يزداد فيها الآن استخدام شعار: «الطائفة أوّلاً»، يترسّخ واقع خدمة مصالح «إسرائيل أوّلاً». فبعد شعار «الوطن أوّلاً» الذي ساد في عدّة دولٍ بالمنطقة بعد المعاهدات مع إسرائيل، تبيّن أنّ هذا الشعار لم يكن من أجل تحريض المواطنين على الولاء الوطني أوّلاً والتخلّي عن الانقسامات الداخلية القائم معظمها على انتماءاتٍ طائفية أو مذهبية أو أصولٍ إثنية، بل كان الشعار لتبرير الابتعاد عن الصراع العربي–الإسرائيلي والتخلّص من الواجب الوطني والقومي في المساهمة بتحرير القدس والأراضي المحتلّة في فلسطين. أيضاً، جرى استخدام هذا الشعار أحياناً (الوطن أوّلاً) في مواجهة دول عربية أخرى وليس طبعاً في مواجهة إسرائيل وأطماعها في الأرض والثروات العربية.
إسرائيل هي المستفيدة الأولى من الواقع الفلسطيني تحديداً والعربي عموماً بما هو عليه من حال الصراعات والتشرذم وانعدام وحدة الموقف، ومن الفوضى في العلاقات والمؤسّسات العربية، ومن أولويّة مصالح الحكومات على الأوطان، ومن «جهالة» من هم بمعارضة عُنفية تتحدّث فقط عن الديمقراطية ولا تمانع من التدخّل العسكري الأجنبي!
لقد سبق إعلان «المجلس اليهودي الصهيوني» في فلسطين لدولة إسرائيل في 14/5/1948 ومطالبته لدول العالم الاعتراف بالدولة الإسرائيلية الوليدة عشيّة انتهاء الانتداب البريطاني، سبق ذلك، عشرات السنين من التهيئة اليهودية الصهيونية لهذا اليوم الذي أسماه العرب والفلسطينيون بيوم النكبة. وكانت خلف هذا الإعلان منظّمة صهيونية عالمية تعمل منذ تأسيسها في العام 1897 على كلّ الجبهات، وهي التي حصلت من بريطانيا على «وعد بلفور» الشهير ونظّمت هجرة يهودية كبيرة للأراضي الفلسطينية على مدار أكثر من ثلاثة عقود، مروراً بحربين عالميتين استثمرت الحركة الصهيونية نتائجهما لصالح «خطّة إقامة دولة إسرائيل»، كما ربطت مصالحها الخاصة بمصالح دول كبرى بسطت سيطرتها على المنطقة العربية بعد انهيار الدولة العثمانية.
فاين هو التخطيط والتنظيم على المستويين الفلسطيني والعربي في مقابل ما حدث من تخطيط وتنظيم صهيوني لأكثر من مائة عام؟!
طبعاً، هناك متغيّرات كثيرة حدثت في العقود السبعة الماضية، دولياً وعربياً وفلسطينياً، لكن العودة الآن إلى تفاصيل ما حدث في القرن الماضي، مردّه استمرار مراهنة السلطة الفلسطينية على الأمم المتحدة وعلى دور الولايات المتحدة في ظلّ إدارة ترامب، وبالتالي إعادة الحديث الأميركي عن أهمّية المفاوضات كخيار وحيد أمام الشعب الفلسطيني!
فهل من المؤمَّل أن يتخلّى نتنياهو عن «لاءاته» بشأن رفض الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة، وإقرار حقّ الشعب الفلسطيني بالعودة، وجعل القدس عاصمةً للدولة الفلسطينية المنشودة؟ حكومة نتنياهو لا تجد مصلحةً الآن في أيِّ حلٍّ سياسي مع الفلسطينيين، ولا أقطاب هذه الحكومة طبعاً من الموقّعين أصلاً على الاتفاقيات التي تمّت مع «منظمة التحرير» في «أوسلو» بالعام 1993، وهي حكومة ترفض أصلاً وقف الإستيطان في القدس والأراضي الفلسطينية المحتلّة، ولا تعترف بأحقّية وجود دولة فلسطينية مستقلّة.
إسرائيل تعتمد فقط على منطق «حق القوة»، مقابل اعتماد رسمي فلسطيني وعربي على منطق «قوّة الحق».. وفقط عبر مبادرات سياسية ومفاوضات واتصالات ومراهنات على مؤسّسات دولية، بينما المنطق العملي الذي يؤكّده التاريخ يقول: «إنَّ الحقّ بغير قوّة هو حقٌّ ضائع»، وأنَّ «الجنوح للسلام» يعني أصلاً أنَّ الحقّ هو كالطير له جناحان: جناح العمل للسلام وجناح الاستعداد للحرب، فأين السلطة الفلسطينية والبلاد العربية من هذا الجناح الأخير! وهل يكفي لتحقيق الحقّ التلويح فقط بأغصان الزيتون ومعظمها يابسٌ الآن؟
الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة استفادت وتستفيد من الظروف الدولية والعربية والفلسطينية على مدار عقود من الزمن إلى أقصى الحدود الممكنة، وهي تفرض شروطها ومطالبها على العالم ككل، فلِمَ انقلبت الأمور عربياً بعد حرب العام 1973 التي يُفترض أنّها كانت نصراً للعرب، عمّا كانت عليه بعد حرب 1967 التي يُفترض أنها كانت هزيمة للعرب؟
فمِن شعاراتٍ حافظ عليها العرب بعد حرب 67: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بإسرائيل قبل انسحابها من الأراضي المحتلة عام 1967، إلى التسابق نحو الاعتراف والتفاوض والصلح مع إسرائيل، كما حدث بعد اتفاقيات كامب دافيد ثمّ بعد مؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو؟
أيضاً، بعد حرب 1967، كان العرب يتحرّكون وفق إستراتيجية شاملة وواضحة للتحرير، فيها الجمع بين العمل الدبلوماسي والاستعداد العسكري، بين قبول قرارات دولية وبين حرب استنزافٍ مفتوحة على الجهة المصرية وعمليات متعدّدة للمقاومة الفلسطينية.. أمّا في «الزمن الصهيوني» الراهن، فإنّ العجز الرسمي العربي وصل إلى أقصاه حيث لا بدائل عربية لمشاريع ومبادرات السلام، ولا إستراتيجية شاملة واحدة حتّى في الإطار الفلسطيني نفسه.
وإذا كانت المنطقة العربية عاجزة عن التحرّك إلى الأمام، فلِمَ إستباحة التراجع إلى الوراء؟ ولِمَ لا يقف العجز الرسمي العربي والتنازل الرسمي الفلسطيني عند سقفٍ معيّن من التراجعات؟ لماذا لا تشترط السلطة الفلسطينية تنفيذ القرارات الدولية بشأن فلسطين قبل القبول بتجديد التفاوض مع إسرائيل؟، فأساس المشكلة الآن هو الاحتلال الإسرائيلي وليس فقط موضوع الإستيطان أو الإفراج عن الأسرى.. أساس المشكلة الآن هو ضعف الوضع الرسمي العربي الذي يكتفي بالمبادرات السياسية دون أيّة خططٍ عملية لفرض هذه المبادرات، فالعرب منشغلون اليوم في «جنس شياطين» الإرهاب أو بعض الحكّام والمعارضين بينما أبواب أوطانهم تُخلَع واحداً بعد آخر، بل إنّ أساسات بعض هذه الأوطان تتهدّم وتتفكّك لتُبنى عليها «مستوطنات» صهيونية جديدة بأسماء دينية أو إثنية!
Leave a Reply