بعد فحص طبي شامل، قال له الطبيب: “حالك مش عاجبني أبدا”. فرد عليه: “ولا أنا حالي عاجبني يا دكتور، لا صحيا ولا نفسيا، ومنذ مدة أعاني من زائر ثقيل لم أكن أعرفه من قبل، اسمه القلق أو الأرق.. لا فرق بالإسم، وأحيانا أصاب بشعريرة حين أقرأ بعض الصحف وأشد شعري تأزماً وأنفلق من الغيظ حين أشاهد نشرات الأخبار ولهذا فأنا أسألك علاجاً لنفسي”. فقال له الدكتور، “لا فض فوه، مع الأسف.. لا يوجد علاج لحالتك”!
“ولو يا دكتور! كل هذا التقدم والعلم والتكنولوجيا وصور الأشعة ذات الرنين المغناطيسي، وهيك ببساطة، تزف إلي البشرى، أن لا علاج لي. دخيلك شو القصة؟ على حد علمي وألف حمد وشكر لله، دمي مش ثقيل، كونه خالي من الكوليسترول، هلق هوي خفيف شوي مثل عقلي وشعري، معليش هيدا بالوراثة، وأنا لست مصاباً “بعيد الشر من هون” بالسرطان أو مرض نقص المناعة الوراثي أو المكتسب، ولكنني أشعر كأني أموت كل يوم “شوية شوية”.
أجابه الدكتور ببرود: هذه حقيقة. إذا لم تلحق حالك ستذوي وتذبل خلال أربع أو خمس سنوات على أبعد تقدير!
استوقفته في حديث الحكيم كلمة “تذوي”. فسأله عنها. شرح لا شرح الله صدراً قائلا: بعد كم سنة إن لم تمت فستصبح معاقا ولا تستطيع المشي أبدا، فالأرق والتأزم يؤديان الى صعوبة التنفس. وصدقني عندئذ ستتمنى الموت لو أنه يأتي بأسرع ما يمكن.
لم يكن يعرف معزة الحياة إلا بعد أن هدّ حيله هذا الدكتور “إبن الذين” متابعا تحذيره ذو اللون الأحمر: إن الأمر المهم الذي سيوقف هذا الانحطاط الخطير في حالتك هو الابتعاد عن كل ما يزعجك ويقلقك وينغص عليك حياتك.
فتح فمه ببلاهة وسأل الدكتور: مثل ماذا؟ أجاب الحكيم: لا أعرف مثل ماذا. أنت أدرى بنفسك وما يزعجك.. ابتعد عن الأحزان وأخبار السوء وحاول أن تملأ حياتك بالمرح والسعادة.
صمت المسكين ودندل رأسه وصار يحدث نفسه: بالتأكيد هذا الدكتور يمزح، أو أنه مخرّف، ولا يمكن أن يكون جادا أبدا، لأنه لا يعرف أنني إنسان أنتمي بالوراثة للعروبة وأنتمي بالمواطنة “لوطن النجوم وجبل الغيم الأزرق وبلد الندى والزنبق” ذو الوجه العربي والقلب الغربي.
لو يعرف الحكيم إنني أنتمي لوطن، شعبه المقيم أو المغترب أشبه مايكونوا بركاب قطار بلا سائق، يمشي في نفق مظلم على سكة تدور حول نفسها. منذ سنوات عديدة وهؤلاء الركاب يجلسون في هذا القطار المعتم في نفق الطوائف والتعصب حيث لا بصيص نور، ولا قبس من نار، والمصيبة أن عربات القطار تقطعت أوصالها وصارت كل عربة من عرباته تلف وتدور على هواها، وكيفما اتفق، ولا تخشى الاصطدام مع بعضها البعض. والمشكلة أن هؤلاء الركاب ليسوا أغبياء ولكنهم عميان. فهل رأيت أعمى يقود أعمى يا دكتور؟ وينطبق عليهم قول الشاعر “قد ضل من كانت العميان تهديه” وأنا واحد من هؤلاء الضالين يا دكتور، كل ما أفعله هو العتب على الذين يجلسون في القطار المعتم في نفق الجهل والتعصب ولا يفعلون شيئا سوى تكرارهم المستمر وسؤالهم الدائم للقطار: يا وابور قلي رايح على فين؟
هنيئا لك يا دكتور، فسوف تعيش طويلا حتى أرذل العمر بإذن الله، كونك بايعها بالعتيقة، ولا ترى ولا تسمع ولا تعيش حالي وما يدور حولي.
Leave a Reply