إن متابعة تطورات الربيع العربي، وتحديدا في البلدان التي انتصرت فيها الثورات التي أوصلت “الإسلاميين” إلى سدة الحكم في تونس ومصر وليبيا، تدفع إلى التفكير مليا بموقف الولايات المتحدة من النخب الحاكمة القادمة وتحليله في العمق، في الوقت الذي لا يخفى فيه على أحد ما يتعرض له المسلمون في أميركا نفسها، من مراقبة وتضييق وتنميط.
فإذا كان متابعو الشأن الأميركي يعرفون أن الولايات المتحدة تتصرف في بعض الأحيان بدوافع من “عُقد” مستحكمة، ذلك أن الدول مثل الأشخاص على حد تعبير الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، وإذا كان ثابتا أن أحداث “11 أيلول” شكلت عقدة عويصة للعقل الأمني الأميركي، فماذا يدفع إذن الإدارة السياسية إلى “التدخل” في شؤون الثورات العربية، التي بات من المؤكد أنها ستأتي بالإسلاميين دون غيرهم؟
لقد شكل انتصار الثورة الإيرانية في نهاية سبعينات القرن الماضي ضربة قاصمة للاستخبارات الأميركية، وازداد وجع الأميركيين بسبب وقوع السفارة الأميركية في إيران تحت احتلال مجموعات من الطلبة دام ما يقارب السنة ونصف السنة، وقد شكلت هذه الحادثة عقدة للعقل الاستخباراتي الأميركي، وهو ما دفع الأميركيين لأول مرة في تاريخهم إلى التجسس على أصدقائهم، بعدما كان سائدا أن المؤسسات الأمنية في بلد ما تقوم بأعمال التجسس على نشاطات الدول المعادية فقط.
أما العقدة الأخرى التي هزت الأميركيين، رسميا وشعبيا، وتحكمت بسياساتهم زمنا طويلا، فهي الهزيمة المدوية التي لحقت بهم في فيتنام. وكانت هذه الهزيمة دافعهم الرئيسي في توريط الاتحاد السوفياتي السابق في الدخول إلى أفغانستان، لـ”يذوقوا من نفس الكأس الذي ذاقه الأميركيون في فيتنام”، بحسب تعابير عدد من السياسيين الأميركيين.
ومنذ اتخاذ ذلك القرار، تم تكريس الجهود لتقوية “الجبهة الإسلامية” في منطقة الشرق الأوسط، لتكون الخزان الضخم الذي سيرفد الجبهات المتقدمة في باكستان وأفغانستان، وكان الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور صاحب مشروع يهدف إلى خلق “محور إسلامي” لسد الفراغ في آسيا. وحققت أميركا أهدافها بهزيمة السوفيات، كانت بدورها مدوية، قبل أن تتمكن أخيرا من تفكيك القوة العظمى الثانية، وانهيار الاتحاد السوفياتي.
وبعدها، انقلب السحر على الساحر، فكانت هجمات أيلول (مع تعدد الروايات وعدم وجود أدلة كافية لتوجيه الاتهامات لمنفذيها المحتملين) الحادثة التي قوضت نظرية الأمن القومي الأميركي التي كانت سائدة طوال سنوات القرن العشرين، وانكشفت القلعة، العملاقة المحصنة بالصورايخ العابرة للقارات، من الداخل. وفي هذه المرة كان على أميركا أن تبدأ حربها على عدة جبهات عريضة ومليئة بالأفخاخ، وكان عليها أن تتذوق المرارة نفسها في أفغانستان والعراق من جديد، من دون أن تتخلى عن إصرارها العنيد في محاربة “الإرهاب” في كل مكان، بما في ذلك.. في أميركا نفسها!
والسؤال: لماذا تتوجس الولايات المتحدة من مسلمي أميركا وتذهب إلى مباركة الإسلاميين الذين يصعدون “خفافا” إلى سدة الحكم؟ وإذا كان تخوفهم من “الإرهاب” الإسلامي هو دافعهم إلى شن الحروب في العراق وأفغانستان، فماذا الذي يشجعهم على “شن” السلام مع القوى الإسلامية الصاعدة في بلدان الربيع العربي؟
وهل يجوز لنا تفسير ظاهرة صعود الإسلاميين في البلدان العربية، بالإقصاء والتهميش والتنكيل الذين عانوا منه لعقود طويلة وممضة من قبل الديكتاتوريات الحاكمة لبلدانهم؟ ثم هل يكفي نجاح التجربة الإسلامية في تركيا ووصولها إلى قيادة البلاد لكي يتم استنساخها عربيا وتعويمها شعبيا وإعلاميا..
وفي آخر الأمر.. لماذا تتقاطع الثورات العربية في هذه النقطة بالذات، نقطة سيطرة “الإسلاميين” على تلك الثورات، وأحيانا قطف نتائجها السياسية. منذ اندلاع الربيع العربي، سادت تلك المقولة، شرحا أو تبريرا، تأكيدا أو تكرارا، أن البلدان العربية لا تشبه بعضها، فمصر ليست تونس، وليبيا ليست مصر، وسوريا ليست اليمن.. وهكذا. وهذا كله صحيح..
أما الصحيح.. فهو أن الإسلاميين في بلدان الثورات يتشابهون إلى حد التطابق! وهذه المصادفة لا تنطبق بأي حال على مقولة “يخلق من الشبه أربعين”.
Leave a Reply