-1-
يوسف الخال كان الذي أقدم على نحر الجمود وجعل يديه تقبضان على ثمرة الشعر العربي، ولاسيما اللبناني، والذي افتتح المأكل والمشرب والذي، من ثم في الهدأة وفي المساء الطويل، في الليلة الظلماء، دعا الأصدقاء، أو حفنة من السنابل، من المواهب الملتهبة، إلى المائدة التي راوحت بين مسافة ومسافة، بين ليونة وشدة، بين قمر في بدر وقمر في أقل. وأما الضوء فكان هو الذي صبّه على الحفل، على الذين اقتربوا منه وكانوا جميعاً أولئك الروّاد.
وأولئك الذين يدركون ما هي العقدة، ما هي المسرحية ما هي الملهاة وكيف تكون دسمة وكيف على الممثلين أن يمثلوا وأن يخترقوا القناع. وأن يصلوا إلى النعمة المحتملة، إلى القصيدة الجديدة، إلى التكاوين التي تليق بمن هم في الكرام، في التجليات المنطلقة على هواها وعلى كونها على حق وفي صواب أكيد، قليل عديدهم وليسوا إلا نفر من القادمين إلى العرس. وليسوا ضيوفاً البتة بل هم الذين يبحثون عن العروس قي خضم الأسئلة والوجوه المستعارة. ويبحثون عن القافية التي ترقص، ولا شيء في جعبتها، في جزدانها يدل على أنها غير ذلك، غير تلك الراقصة على الحضيض المتوارث وحيث المعنى لا يظل إياه وحيث الصدر والعجز كأن الشاعر ينقل الإثنين نقلاً واحداً ولا يسطع سطر من السطور. بل ان الصدى كأنه الرنين المعتاد، وكأنه في سجن من الأفكار، بل من المشاعر الضيقة والتي، برغم الجفاف، ينادي بعضها بعضاً على موسيقى ذات برودة وذات جسد يتماثل عند هذا من الشعراء وعند ذاك من هؤلاء وكأن لا فرق بين حمامة وحمامة ولا اختلاف بين تحليق وتحليق وبين سرب وآخر وبين تغريد وآخر.
-2-
ويوسف الخال في ذكراه عندنا، هو الذي يدعى المكان ويدعى الزمان وهو، في هذا الحفل الذي صنعه وجعل بيته ملتقى لكل الذين استفاقوا، ولكل الذين يشعرون شعور التمرد، وشعور الصخب وشعور الحنق، إنما تراءى لنا نحن، في مجلة شعر، وفي الدواوين التي صدرت، ذلك الرائد وتلك النار التي أوقدها على الأرض المنبسطة وعلى التلة المشرفة على الخصب وعلى تصاوير لم تكن وعلى كل فسحة أمامه. وهو لهذا السبب وغيره من التفاصيل يدعى المكان في ذاته ويدعى الزمان في ذاته. إذ عمد إلى أن يجمع الجميع أي نفراً من لبنان، من بيروت على الأخص، ومن المشرق العربي. وكان الذي استفاض في الرحابة، في بسط المكان للالتقاء ولأن نكون نحن في قلب المعركة، في قلب التفاحة وأن نكون ولو بضعة شعراء، نقطف النتائج، نقطف الكروم، ونقطف اللغة التي تناسب القيمة وتلائم القصيدة الحديثة. ولا عيب فبه سوى كونه ضحى وتمادى في التضحية حتى الثمالة. وازداد في هذا النطاق بكونه ذلك الإقطاعي النبيل وليس قط إلا كذلك، وبكونه انفرد في تاريخ الحداثة الشعرية، بأنه الذي أمسك بالقنديل وبأنه ظل، في يومياته وفي حياته العائلية، يقوم وينهض على هذا الأساس من الحراسة الفكرية، ومن السهر على النهضة المشتعلة والتي بلغت أوجها عبر شعراء معروفين صاروا أولئك السادة في ما بعد وفي ذلك الزمان الباهر واللامع أشبه بقلادة، وأشبه في آخر الصلاة بحبة المسك، وبان الشجرة ملأى بالبركة، بالعصافير، وبشيء من السر البعيد الأثر.
-3-
ويوسف الخال ذو شقين، شقٌّ هو ما قبل وشُقٌّ هو ما بعد، أي ذلك الزمان الذي كشفه أخيراً وسقاه جداً من الخمر التي في جرّة الإنسان، في خابية البيت، وفي أيِّ كأسٍ من الكؤوس التي تشع في الندامى وعبر الندامى.
وكان زمان يوسف الخال، أبو طارق، زماناً من الضحكة ومن الجدّ ومن القلم الأقوى من السيف. وكنا نحن تلك العصبة التي صرنا بها اخواناً وأقرب إلى أن نكون كهنة على صعيد الكلمة وعلى صعيد القصيدة قاطبة.
وكنا أولئك المثابرين على المغامرة، على اللعبة، في ناحية الشفهي وفي ناحية الكتابة. وفي أي حال نحن وهو، بل نحن في لفظة واحدة، إسمنا نحن ولا تمييز، وكان يوسف الخال هو الذي يدق الجرس وكذلك كنا مثله، والذي عنده النقد وكنا مثله، والذي يحنو على مجلة شعر والذي يكتب فيها ما يكتب، ونحن أيضاً كنا نكتب ونزيد ونضيف. وكانت مجلة أدب وكنا نكتب ولا ندع مشهداً ثقافياً إلا نزوره ونقدم عنه صورةً للقارىء.
وكانت مجلة «شعر» وهي البهاء وهي في حساب الدينونة سامية وراقية ووصيّة، وكانت التي وإن طال الزمان بين فصل وفصل هي المثابة وهي الكتاب الذي نؤلفه ونحرره، ولا كلمة تخرج من الصفحات إلا مزيّنة وإلا تنضح ما تنضح من الجدّة ومن الأمل الثقافي والأمل المستقبلي.
-4-
وفي ذكراه، نكتشف الرجل، شاعراً وصديقاً والذي كان القبلة، والذي كان الشهم والمتعالي عن الصغائر، عن السفسطة المتهالكة والمتهافتة. وكان لبنان له هو القبلة والشعر هو القبلة والثورة على مضمونه القديم هي القبلة. وكان في هذا الصدد لبنانيَّ الهوى والروح واللسان، على طريقة المتنبي، ويظلّ مقعده محروساً في الصدور، وفي النص الذي له. ويظل ذلك المشتاق إلى نفض الغبار ونفض ما يلبس لبوس الأصالة، ويظل ذلك الأديب الأكثر رحابة، والذي فتح بيته وكلّ سعة لديه، ليأتي الزوار ويأتي الأحباء، ويظلّ دائماً -كما قلت سابقاً عبارتي الذائعة- ذلك الأنيق حتى في رماده.
لكن جدثه في غزير الكسروانية حيث دفن في الجل، جلّ الكنيسة، لا يليق بالشاعر الذي اختار البلدة بيته ومقامه، ولا يليق برماده، وعلى السلطة هناك أن تنتبه له وأن تحرس وتحدب على الذي كان في أحلى انتماء إلى ترابها وأن لا تخذل الشاعر وأن يكون شأنه لديها في مطلع العزّ والأهمية.
-5-
ويوسف الخال كان ذلك الضحوك وذلك الضحاك، والذي في هذا الصعيد، يبدو المتقدم والذي يترك لنفسه مقاماً في الأنس والمسامرة. ونبقى لنروح معه أيضاً لنقول أنه ذلك المستقي وله شرابه وله كأسه، وكان يبوح لي أنه يمضي إلى هذه الكأس عندما تغيب الشمس فيلتقي صديقه بهيج مالك، أخا شارل مالك، وعندئذ لا شيء يوقفهما وانما هما المتيمان واللذان على العادة الحياتية هذه، وعلى الطقس الاحتفالي، ولا ما يرتدعان منه وله وليس على الخشبة قبالتهما سوى الأصول التي هي كذلك. وفيما بعد كان التغيير في الطقس وفي المبدأ. إذ انتقل يوسف إلى قبل الظهر. وفي غزير، البلدة المحبة والحبيبة، كان إلى كأسه من الويسكي في الصباح، وكان إلى التواتر والتقلب من قليل إلى كثير إذ هكذا يرتاح ويشعر في قنطرة النفس المتوحدة والمضطربة بأنه فارس، بأنه ممثل، بأنه بلا قناع، وبأنه والأصدقاء الذين يأتونه هم الضيوف وهم أصحاب البيت. وتلك طبيعة في يوسف الخال توالت معه وازدادت بوحاً وهديراً في رفقة الوقت، في رفقة الزمان.
ولعل يوسف هو الذي زرع هذه الخصلة، هذه النبتة في غيره وفي مجموعة من المثقفين الذين يقتفونه في طريقه، في سلوكه المعيشي. وهو في فن الرفاه يعادل موقفه الأدبي والتاريخي. ونحن، قبله، كنا أمام كأس في أحيان تمر وتنقضي ولم نكن لنسهر أو لنصعد إلى الجبل أو لنهرب إلى عش هناك أو إلى غرفة هنالك، بتلك الوتيرة. فهو الذي له أمثولة في هذا المطاف الشخصي، والذي يسبقنا إلى الاقتراح وإلى الذهاب وإلى الموائد، وإلى الانشراح وبسط المازة والمقبلات والأخضر والسمك على عيوننا وعلى أن ندخل في ما هو بين الجد واللعب، وفي أن ندع السيف، سيف أبي تمام جانباً وأن ندع القلم جانباً حتى يكتمل الحبور وحتى تمطر السعادة علينا، مدة ولو قصيرة، ولا لزوم للشمسية، للمظلة لأي وقاية من أي نوع.
-6-
ومن سيرة الجدث المفتوحة في بلدة يوسف وهي غزير العريقة، إلى غيره من الشعراء والأدباء ذوي المنزلة والقدرة على الخلود. ونقول هنا عجبنا كيف أن لا أحد من أولئك له جدثه وله تكريمه الحق والواجب الوجود. وكما على القيِّمين على السلطة في غزير، أن يأخذوا يوسف إلى حيث يليق به المقام الأبدي، كذلك على سائر البلدات أن تفعل فعلها وأن تسكب الرحمة واللياقة على الراحلين النجباء لديها، وأن تحترم الذكريات الأدبية والعلمية، كما تصرفت بنبل بلدية ديك المحدي إزء أمين الريحاني، ذلك المتنبئ الذي عاش الخصب في التعبير والرحلات والكتابة الواعية، وكان له تمثال نصفي على المدخل الجبلي، وكان له صدى في المحافل وفي الأوساط التي ترصد الإشارات اللامعة والتي تتصل بما هو فوق الواقع، ولما يزيّن هذا الواقع المجيد أفضلَ زينة وأفضل احترام.
Leave a Reply