أحتاج إلى ريشة من بلور وألوان أثيرية ومدى لا يحده نور أو شفافية، إذا أردت أن أكتب عن رجل وإمام اسمه يوحي بالجلال والهيبة وسيرته ترفع القارئ والسامع من الكيان الترابي وتضعه على مشارف الكون النوراني، حيث يصعب وأنت تحاول الكتابة عنه أن تظل بعيدا عن لمسات الإيمان والطهارة ولا تملك إلا أن تنضم إلى “حزب” محبيه وتابعيه.
إنه الإمام العظيم، المتواضع لله دوما، الذي نشأ في بيت النبوة ولازم الرسول محمد وهو صبي صغير واقتبس من الفيض النبوي الذي كان لا ينطق عن الهوى. وقد كانت تجمع بين الإمام علي بن أبي طالب والرسول الأعظم محمد، صفات كثيرة ومشتركة: الذكاء والشجاعة والاهتمام بأحوال الناس البسطاء والرغبة في الحد من غلواء الثراء الفاحش والفقر المدقع وإحلال العدالة في المجتمع، فحين يبسط الفقر ظله على مجتمع ما فترة طويلة يعتاد الناس على حياتهم البائسة، وتموت لديهم روح المقاومة وتنعدم الرغبة في البحث عن حياة أفضل، وهكذا تصير حالة الفقر حالة ثابتة دائمة، وهذا ما سعى الإمام علي للقضاء عليه: الفقر، وتمنى لو كان الفقر رجلا لقتله بسيفه، سيف الحق والعدالة للجميع، العدالة التي يتحلى بها القادة العظماء على مر التاريخ وهي الانحياز الى جانب الحق، حتى ولو خسر القائد في النهاية.
والحقيقة إن الإمام علي لم يخسر في لحظات تاريخية في أن يجسد في شخصه طموحات أمته. والحقيقة أيضا أنه تنازل تواضعا ومحبة لتلك الأمة، في لحظات تاريخية عديدة حقنا للدماء ولبقاء الأمة الاسلامية الفتية بعيدا عن العصبية والتشرذم. لم يسعَ ليكون وليا لأمته وقتذاك، رغم إنه المستحق لذلك، بل سعى ليخدم مجتمعه وترسيخ الدين الاسلامي فكان لا يلوم أحدا على ما يجد العذر في مثله حتى يسمع اعتذاره. وكان يفعل ما يقول، ولا يقول مالا يفعل. وكان أحرص على أن يكون سامعا منه على أن يكون متكلما، زاهدا لا راغبا في الدنيا.
لم تكن الولاية والخلافة بعد رسول الله، لتزيد الإمام عليا رفعة وشأنا بين قومه. وسواء كان وليا عليهم أو واحدا منهم، كان عليه السلام يؤثر أن يكون خادما ومعلما ودافعا لهم لاتباع مكارم الأخلاق وأن المؤمن بشره في وجهه وحزنه في قلبه. المؤمن أوسع شيء صدرا، وأذل شيء نفسا. يكره الرفعة، سهل الخليقة ولين العريكة. هذا هو الامام علي عليه السلام، الذي ترتفع الأصوات وتتزاحم مكبرات الصوت في الجوامع والحسينيات في طول الأرض وعرضها كل سنة في ذكرى يوم الغدير باكية شاكية ناعية ضياع حقه في الولاية والخلافة بعد رسول الله (ص). تردد تلك الأصوات مطالبة بالقضاء والقصاص ورد الحق لأصحابه، ولو أدرك أصحاب مكبرات الصوت هؤلاء حكمة الإمام حين قال: “قدر الرجل على قدر همته وصدقه على قدر مرؤته وشجاعته على قدر أنفته وعفته على قدر غيرته، وان الحلم والأناة توأمان نتيجتهما علو الهمة”. لو أدرك تلك الحِكم أصحاب الرقاب الغليظة والأصوات العالية البغيضة لبلعوا ألسنتهم وسكتوا.
فيا سادة يا كرام، قليلا من الصراخ وكثيرا من الحلم والأناة في يوم الغدير، يوم ولاية الإمام علي. اكثروا في هذا اليوم من الصلاة والدعاء والعبادة الخالصة لله تعالى كما كان يفعل الإمام علي لا طمعا في جنة الله ولا مخافة من ناره وإنما لأنه ادرك أن الله ربا وخالقا عظيما يستحق الحب والعبادة، إذ لعل وعسى تلك المحبة والعبادة تمس النفوس بنور الإيمان وتطهر القلوب من فيروس الكبرياء وجراثيم التعصب، فتمتلئ القلوب والنفوس بالقدرة على العطاء والتسامح
Leave a Reply