ديربورن – خاص “صدى الوطن”
قامت “صدى الوطن” بزيارة ميدانية الى محكمة ديربورن الـ19 وأمضت ما يقارب الأربع ساعات داخل القاعة رقم 1، حيث يتولى القاضي مارك سومرز القضايا الجنائية والمدنية فيها. وذلك لتفقد ما يجري داخل القاعات المغلقة من قضايا المواطنين وخروقاتهم للقوانين من جهة، ومراقبة عملية تطبيق القوانين من جهة أخرى.
هذه القضايا قد تبدو بالنسبة للكثيرين غير إعتيادية، بينما يعتبرها القاضي سومرز مسائل روتينية يتعامل معها بصورة يومية. فما كان بالنسبة لنا صباح إثنين من نوع آخر، كان للقاضي يوماً مثل باقي الأيام.
في قاعة المحكمة، يتوزع المتهمون في المقاعد الخلفية بإنتظار نداء أسمائهم.. تجمعهم ملامح التوتر الواضحة والشعور بطول الوقت وثقله. وفي الصفوف الأمامية يجلس المحامون، تتقدمهم منصة خشبية تتوسط الحاجز بينهم وبين القاضي، الذي يتربع على منصته العليا مواجها كل الحضور.
يفتح القاضي الملف وينادي المتهم الأول. يتقدم الشاب الافريقي الأميركي بهدوء سريع ويقف ممسكا بحرفي المنصة وهو ينقر أصابعه بحركة تراتبية تنم عن توتر واضح، ويبدأ الحديث..
يسأله القاضي: “متى كانت آخر مرة دخنت فيها الماريجوانا؟” فيجيب الشاب العشريني: “منذ يومين”. القاضي: “وهل تحب تدخين الماريجوانا؟”، “نعم، أحبها”. فيجيبه سومرز: “للأسف، إن ما تحبه هو غير قانوني وعليه فإن التهمة الموجهة إليك بحيازة المخدرات وتعاطيها تجعلك مذنبا. وتقضي المحكمة بوضعك تحت المراقبة لمدة سنة مع دفع غرامة مالية بقيمة 100 دولار ومتابعة برنامج خاص لمكافحة الإدمان على المخدرات”. ويختم القاضي حديثه بالقول: “هل كل شيء واضح؟” فيومئ الشاب برأسه ويقول “نعم”، ثم ينصرف.
وتكر المسبحة، قضية تلي الأخرى.. وما يدهش فيها وقفة المتهمين أمام القاضي بالرهبة نفسها، بإنحناءة بسيطة للرأس وحركة الأصابع المتواصلة. إذا فللقانون، ولو مظهريا، رهبة وسلطة على الكل، حتى لو كنا جميعا نرتكب الأخطاء، الا أن بعض القضايا أظهرت أنه في كثير من الأحيان يمكن لهذه الأخطاء أن تتحول الى جرائم بشعة يدفع أثمانها المجتمع بأكمله.
وإحدى تلك القضايا دفعت بالقاضي سومرز للقول بإنفعال: “أذكر جيدا صورة الطفل المحاصر في زاوية الغرفة ووالده يلطمه ويضربه بكل عنف وإجرام”. وأضاف: “أذكر وجهك جيدا، فلا يمكنني أن أمحي صورة أب أربعيني يضطهد ابنه ويمارس العنف الجسدي والكلامي عليه”. واسترسل مكملا حديثه: “أخاف على الأجيال القادمة من المجتمع الذي يهيأه لهم أبائهم، أخاف على مستقبل حفيدتي إبنة الأربعة عشرة يوما من رجال مثلك”.
يواجه الرجل الإفريقي الأميركي ثلاث تهم. أولها، لتغيبه عن حضور جلسة محاكمته على خلفية العنف الأسري الذي مارسه على إبنه السنة الماضية والتي قضت المحكمة فيها بسجنه لمدة 30 يوماً ووضعه تحت المراقبة، والثانية لفشله في إجتياز إمتحان قياس وجود الكحول والمخدرات في جهازه الدموي، والثالثة تهمة قد وجهتها مدينة إنكستر ضده لمخالفة مدنية (غير جنائية).
وسأله القاضي ساخراً: “متى وأين دخنت الماريجوانا آخر مرة؟” فأجابه المتهم: “منذ أسبوعين وفي حفل خطوبة إبن عمي”. فرد عليه سومرز ضاحكا: “إذا المخدرات قضية عائلية”، وتغيرت نبرة صوته وأضاف بجدية: “لا أفهم كيف لرجل بسنك يمكنه الإستمرار في إرتكاب الحماقات نفسها مرارا وتكرارا ولا يتعلم كيف يصحح الخطأ ولا يحسب أي حساب لتبعات أفعاله وجرائمه مع أنه يدفع الثمن غالياً يومياً”.
وفي سياق آخر، بدا أن تهمة حيازة وتعاطي المخدرات كانت من التهم المشتركة في أكثر من نصف القضايا. وجاء الحكم في معظم الأحيان بدفع غرامة مالية والوضع تحت المراقبة القانونية والتي يدخل فيها إجراء فحوصات عشوائية للتأكد من عدم وجود المخدرات والكحول في الجسم.
وللسيدات نصيب من التهم، وإحداها قضية فتاة أميركية عمرها 29 سنة، وجهت اليها تهمة حيازة الماريجوانا وتدخينها والتعدي على شرطي بالركل واللكم بسبب محاولة الأخير الحصول على الماريجوانا التي كانت داخل سيارة المتهمة. هي أم لثلاثة اولاد وعاطلة عن العمل، وتدعي أنها تتعاطى أدوية للعلاج من الإحباط وتدخن الماريجوانا لأسباب طبية. وسألها سومرز بفضول: “من يهتم بأولادك في الوقت الذي تتعاطين فيه المخدرات؟” فأجابته بإرباك: “أدخن عادة في الوقت الذي يكون فيه أولادي نياماً”.
أما السيدة الخمسينية، فقضيتها تثير الفضول. هي إمرأة افريقية أميركية القت شرطة ديربورن القبض عليها على شارع شايفر حيث أمضت ليلة واحدة في السجن. وقد عينت المدينة محامياً للمرافعة في قضيتها، وإدعى بأن موكلته تعاني من مشاكل صحية وعقلية وتصارع مرض سرطان الدم وتتلقى العلاج مرة في الشهر. وصدر حكم القاضي بإسقاط التهم في القضية.
من القضايا المثيرة أيضاً، كانت اتهام شاب أميركي أُخرج لتوه من السجن ودخل مقيّداً من الباب الخلفي لقاعة المحكمة بعد مناداة إسمه بتعاطي الماريجوانا والكوكايين. وقد بدا جلياً على هيئته النحيلة آثار الإدمان الذي تظهر علامات فتكه على الوجه والجسد، فبدت بشرته بلا لون ودائرتا عينيه زرقاوين وتميلان الى السواد. إمتثل الشاب العشريني أمام القاضي في حين أن جدته الثمانينية تجلس بين الحضور، تشاهد حفيدها وربما تتحسر عليه وتندب حاله. وبنبرة حادة وجه له القاضي سؤاله: “من أين جئت بالكوكايين؟” فأجابه المتهم بلا تردد ولكن بصوت خافت: “ليس عندي أي فكرة من أين جاء الكوكاكين، أغلب الظن أن أحدا أضافها مع الماريجوانا التي كنا ندخنها”..
وهكذا دواليك قضية تلو الأخرى وتهم تتشابه وتختلف، تراودك أفكار ومشاعر متنوعة، فقد تشعر بالإنزعاج أو الإستغراب أو التعاطف أو الغضب وحتى الضحك وتختلط عليك الأحاسيس في بعض الأحيان. ولم تخلُ الجلسات من حس الفكاهة واللحظات الطريفة، ففي حين كان القاضي منشغلا بإحدى القضايا وكذلك الحضور، باغتنا صوت طفل يقهقه ضاحكاً في الخلف، أمه لم تأبه بهيبة المكان ولم يخطر على بالها فكرة تغيير حفاضات ابنها في الحمام. فإختارت زاوية القاعة ليكون مسرحا لفعلتها..
من ناحية أخرى، كان لنا فرصة الإستماع الى 15 قضية جنائية خلال تواجدنا في قاعة المحكمة. وجاءت المفاجئة عند فرز الخلفيات العرقية للمتهمين لنجد أن تسعة متهمين كانوا من أصول افريقية أميركية، وأربعة منهم أميركيون وإثنان من العرب الأميركيين.
وعند سؤالنا للقاضي عن نسبة العرب الأميركيين في القضايا التي يتداولها عادة، أشار الى قضايا الأسبوع المنصرم والتي بلغ عددها 56 قضية كان من بينهم عشرة متهمين من العرب الأميركيين.
وفي إستراحة الغداء كان لنا حديث جانبي مع القاضي سومرز، الذي قال في إشارة الى مدى تأثير مزاجه على عمله: “القاضي في النهاية هو إنسان، يتقلب مزاجه وقد تدخل مشاعره أحيانا في ردود فعله على بعض القضايا التي تكون عادة مثيرة للجدل وغير إنسانية، إلا أنه عند إتخاذ القرار النهائي أكون حياديا من أجل تطبيق العدالة المرجوة”. وأضاف: “أحاول أن أوجه رسالة الى المتهمين بشتى أنواع المخالفات والقضايا، علني أستطيع تقويم أفعالهم أو نصحهم الى سلوك الطريق الصحيح”.
والمخالفات القانونية بالنسبة لسومرز كلها تأتي في نفس الأهمية بدءاً بمخالفة السير وصولا الى إرتكاب جريمة، “علينا أن نفكر في صنع مجتمع آمن للجميع وهذا هو صلب مفهوم العدالة”.
Leave a Reply