صادف يوم الأربعاء الماضي، 25 أيار (مايو) الجاري، الذكرى السنوية الـ16 لتحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي الغاشم الذي استباح سيادة الوطن اللبناني وحدوده، صيف العام 1982، وصولا إلى عاصمته بيروت، على مرأى ومسمع العالم العربي الذي لم يحرك ساكناً.
في العام 2000 كان قادة الكيان الإسرائيلي قد قرروا الانسحاب من جنوب لبنان -أو بالأحرى الهرب منه- بعد الضربات الموجعة التي تعرض لها جيش الاحتلال وأعوانه.
قرارهم اُتخذ في ليل دامس علهم يحفظون ماء الوجه، لكن الجميع أدركوا منذ اللحظة الأولى بأن إسرائيل هزمت. فالإنسحاب لم يكن خياراً سياسياً، أو تكتيكاً عسكرياً، وإنما اتخذ لتجنب الخسائر الفادحة التي كانت تتوالى وتتصاعد وتيرتها بفضل سواعد وعقول ووسائل المقاومة التي أصبحت اليوم نداً للجيش الذي قيل عنه إنه لا يقهر.
هي نفسها المقاومة التي ولدت يوم قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون تدمير المقاومة الفلسطينية وسحقها وتحجيم بيئتها الحاضنة في لبنان عام 1982.
وهي نفسها المقاومة التي توجه اليها اليوم أفظع أنواع الشتائم والأوصاف البغيضة، على وقع طبول الفورة المذهبية التي تعيشها البلاد العربية منذ غزو العراق والتي تأججت بعد ثورات «الربيع العربي» المزعوم والفوضى الخلاقة التي لطالما بشَّرنا بها المسؤولون الأميركيون.
هي المقاومة التي تبنت خيار الكفاح المسلح كخيار استراتيجي بدلاً من خيار الرضوخ والاستسلام والتفاوض من موقع الضعف.
لقد تجاهل قادة النظام العربي الرسمي المتخاذل، القاعدة الأولى في التفاوض التي تقتضي على المتفاوضين ألا يذهبوا طواعية إلى طاولة المفاوضات من دون امتلاك أوراق قوة، فما بالك إذا كان «العدو» لا يفهم سوى لغة القوة، وهي الحقيقة التي أدركها باكرا الزعيم جمال عبد الناصر، حين قال: ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
وفي المناسبة المئوية على إصدار وعد بلفور واغتصاب فلسطين، يكون عمر الصراع العربي الإسرائيلي قد بلغ قرنا كاملا. مئة عام.. ولم تستطع الجيوش العربية مجتمعة أن تقف حجر عثرة في وجه المطامع الصهيونية التي قضمت وطنا كاملا للفلسطينيين، إضافة إلى أراض شاسعة في مصر ولبنان وسوريا.
دخل العرب ثلاث حروب رسمية مع الكيان، وخسروا في الجولة الأولى، وبالضربة القاضية في العام 1948، فيما لم يصمدوا أكثر من ستة أيام في العام 1967، عام النكسة الكئيب، ولولا حرب تشرين في العام 1973 لما استطعنا النظر إلى أنفسنا في المرايا.
بعدها دخل العرب في ثلاجة الانتظار وتحول لبنان الى ساحة الصراع الوحيدة، وبدأ تهجين الجيوش العربية وإشغالها بحروب لا طائل منها وصولاً الى تدميرها بالكامل وتحويلها الى جيوش مُربكة كما حلّ بالجيش العراقي الذي تحول الكثير من أفراده الى «داعش»، ومثله الجيش الليبي، فيما كاد أن يكون مصير الجيش السوري مشابهاً.
لكن روح المقاومة لا تنكسر بانكسار الجيوش، فكانت المقاومة الإسلامية في لبنان الذي ابتدأت بفئة قليلة من المقاومين الذين تدربوا على أيدي المقاومة الفلسطينية وآمنوا بالعمل المسلح كممر إلزامي لمواجهة غطرسة الغزاة وصون كرامة الوطن بناسه وأرضه، حتى أصبحت المقاومة اللبنانية متمثلة بـ«حزب الله» قوة محلية وإقليمية لها وزنها وكلمتها المؤثرة في تحديد مصير المنطقة.
لقد استطاعت المقاومة في أن تعيد خلال أقل من عقدين من الزمن الاعتبار لقواعد اللعبة، وتمكنت من هزيمة جيش الاحتلال وعملائه وأعوانه فكان عيد التحرير.
25 أيار ليس مجرد عيد وطني في تاريخ لبنان الحديث. إنه يوم مجيد في تاريخ العرب والإنسانية جمعاء، ومن هذا المنطلق يأتي الاحتفاء به، علامة فارقة، مضيئة، في واقعنا الكالح هذه الأيام، التي نشهد فيها تمزق الأوطان العربية وتقاتل أبنائها، فيما يتابع الإسرائيليون مشاهد الربيع العربي وفصوله الدامية، وهم يبتسمون ابتسامة الخبث والتشفي، وربما يرددون في قرارة أنفسهم، ما قاله هنري كيسنجر معلقا على الصراعات الأهلية في لبنان: دعوهم ينضجون في مرقهم!
Leave a Reply