على غير رضى وعلى غير ترحيب من قوى ”١٤ آذار” وتحديداً من القوى المسيحية وما كان يسمى بـ”قرنة شهوان” ومن النائب وليد جنبلاط، وطأت قدما الجنرال ميشال عون أرض مطار بيروت نهار السبت في السابع من أيار عام ٢٠٠٥. كان للعودة أثرها المزلزل في الساحة المسيحية التي تأهبت لاستقبال القائد العائد بعد ١٥ عاماً من النفي ومن التهميش السياسي الذي مارسته حكومات ما بعد الطائف مدعومة من رجالات النظام السوري التي كانت مولجة بإدارة الملف اللبناني من عبدالحليم خدام إلى غازي كنعان ورستم غزالي. وبينما كان الجنرال يهم بالنزول من طائرته، كانت مطرقة الرئيس نبيه بري تطرق على منصة المجلس النيابي معلنة أن قانون انتخابات عام ٢٠٠٥ قد ”صُدِّق” على صهوة الكارثة التي ارتكبها ”حزب الله” بعقده الحلف الرباعي الهجين مع كل من النائب وليد جنبلاط وسعد الحريري وسمير جعجع الذي كان يكمل محكوميته الأبدية في سجن وزارة الدفاع في اليرزة.
انتقل الجنرال إلى ضريح الجندي المجهول في منطقة المتحف قبل أن يزور ضريح الرئيس الحريري، معتبراً ان شهداء الجيش اللبناني هم من حرروا لبنان من ”الاحتلال السوري”، مقدماً أولى علامات تمايزه عن قوى ”١٤ آذار” التي برأي الجنرال، اختصرت نضالاته على مدى سنين وحجمتها وألبستها إلى أشخاص كانوا من الأدوات السورية في لبنان وكانوا ممن عملوا على توطيد سلطة ”الاحتلال” وتعزيزها.
وقف الجنرال في ساحة الشهداء مستعيداً مشهداً من مشاهد الحشود في ”قصر الشعب” في بعبدا أيام حرب التحرير بين عامي ١٩٨٨و١٩٩٠، ومستعيداً أشهر عباراته التي أطلقها من قصر بعبدا آنذاك، ”أيها الشعب اللبناني العظيم”، عبارة سحرية كان لها الأثر الكبير لدى المسيحيين الذين فتحوا الطريق أمام الثورة البرتقالية من ساحة الشهداء إلى ساحة الرابية، وأغلقوها بوجه الآخرين من ”قرنة شهوان” الى الكتائب والقوات اللبنانية.
تأخر ”حزب الله” في زيارة الجنرال العائد، وبقي متريثاً حيناً قبل أن يطلق موقفه من عودة العماد، مفضلاً الوجهة الإسلامية لتحالفاته وهو ما عبر عنه السيد حسن نصر الله في كلامه لتلفزيون المنار بعيد اغتيال الحريري حين ذكر بأن السنة والشيعة هما رافعة الحكم في لبنان عندما اعتبر أنهما يمثلان ٧٠ بالمئة من الشعب اللبناني.
وكان السيد نصر الله لا يزال يعتقد بأن العمق العروبي للطائفة السنية في لبنان هو الضمانة والحماية للمقاومة ولسلاحها كونها بصيص الأمل الوحيد في هذا العالم العربي المظلم الذي عانت فيه حركات التحرر والمقاومة والممانعة من جور الأنظمة الغاشمة والعميلة التي باعت فلسطين في سوق النخاسة الدولية، وأشترت بذلك عروشها وكراسيها. كان السيد نصر الله يؤمن بأن بيروت العروبة وطرابلس الفيحاء لا يمكن لهما أن يتخليا عن المقاومة لما تشكله من رمزية لتحرير فلسطين العربية من براثن المحتل الغاصب. أدرك السيد نصر الله حجم المؤامرة المتأتية من اغتيال الرئيس الحريري، وما يرسم للبنان في الأروقة الدولية وفي ردهات الأمم المتحدة التي أرسلت مبعوثها الدائم تيري رود لارسن كي يرابط على الجبهة الجنوبية، وكي يعمل على تطبيق القرار ١٥٥٩ بشقه المتعلق بنزع سلاح المقاومة.
من أجل كل ذلك ارتكب ”حزب الله” الحلف الرباعي معتبراً أن التحالف هو لحماية المقاومة ولوأد الفتنة المذهبية، ولم يأخذ ”حزب الله” الكثير من الوقت حتى اكتشف أنه وقع في فخ المخادعة الحريرية – الجنبلاطية – السنيورية المشتركة. فؤاد السنيورة وفور توليه رئاسة الحكومة بعد انتخابات عام ٢٠٠٥، أول عمل قام به هو التعهد أمام تيري رود لارسن بنزع سلاح المقاومة من خلال ”الموعظة الحسنة والحكمة الطيبة”، وهو ما ذكره السيد نصر الله في خطاب يوم القدس العالمي في شهر رمضان من العام ٢٠٠٥ من غير أن يسمي السنيورة بالإسم. وبعد ذلك ظهر المكر الآذاري عندما انقلب وزراء الرئيس لحود على الصيغة التي حكمت تشكيل الحكومة وفقاً لمبدأ الثلث الضامن الذي أقر لـ”حزب الله” وحركة ”أمل” والرئيس لحود تسعة وزراء من أصل أربعة وعشرين وزيراً، ونفذت خطة انسحاب رزق – المر – متري التي كبلت ”حزب الله” وجعلت مشاركته في الحكم صورية بما يناقض ما تم الاتفاق عليه في الحلف الرباعي. وهنا شعر ”حزب الله” بحجم الكارثة التي حلت به من دون أن يثير الضجيج حولها، فسعت كوادره للتواصل مع مسؤولي التيار الوطني الحر، وبدأ النسيج على منواليّ الضاحية والرابية يكبر، حتى أصبح بحجم عباءة وبزة عسكرية، اجتمعتا في لقاء تاريخي يوم ٦ شباط ٢٠٠٦ في كنيسة مار مخايل، ليتم الإعلان عن حقبة جديدة في الاجتماع اللبناني ليس لها سابق، وليس لها مثيل في الحياة السياسية اللبنانية. وبذلك بدأت المفاهيم عند ”حزب الله” تتبدل أو تتحرر إذا صح التعبير، من ”عقدة الإسلاموية” بعد أن أدرك الحزب بأن المذهبية أقوى من الإسلام ومن العروبة ومن المقاومة، وفي سبيل المصالح الفئوية المذهبية يُضحّى بكل القضايا، ولو كانت بحجم سيادة وأرض محتلة وعدو متربص، ولو كانت بحجم فلسطين.
بدأت الحملة الشرسة على المقاومة من قبل فريق ”١٤ آذار” بكل مكوناته، وتولى النائب وليد جنبلاط القيادة الميدانية للهجوم الشخصي على السيد نصر الله معتبراً أن ذلك يضرب قدسية المقاومة من خلال توريط سيدها بالأوساخ السياسية، ومن خلال إقحام المقاومة في قضية اغتيال الحريري مع ما لذلك من بعد تفجيري بين السنة والشيعة، وأخذت الأحقاد تتفشى في مجتمعات جاهلية متخلفة اتخذت من المذهبية عنواناً لها يثير الغثيان عندما تم رفع صورة مشتركة للرئيس الحريري وللرئيس صدام حسين على أنهما شهيدان سنيان قتلاً على أيد شيعية!
وبعد حرب تموز ٢٠٠٦ خرجت المعارضة الى الشارع بمظارهات مليونية مطالبة بحكومة وحدة وطنية، فردت السراي ”يا جبل ما يهزك ريح” على الملايين، ضاربة بعرض الحائط كل القيم الديمقراطية، من غير ان تكترث لإرادة أكثر من نصف الشعب اللبناني، ومن غير أن تقيم اعتباراً للسلم الأهلي والأمن الاجتماعي. فخرجت زمر قريطم من أوكارها وعاثت فساداً واعتداءاً على المتظاهرين، وقتلت العديد من المواطنين في شوارع بيروت، وقامت بترتيب أحداث الجامعة العربية وبقطع الطرقات المؤدية الى الجنوب والاعتداء على الناس… ماذا بعد؟ إعداد الميليشيات تحت شعار الشركات الأمنية، تحويل فرع المعلومات إلى شعبة مذهبية في الأمن الداخلي تمارس أعمال السطو والبلطجة على اللبنانيين، قرار نزع شبكة اتصالات المقاومة السلكية وإحالة المسؤول عنها على المحاكمة، اللعب بالتوازنات داخل ملاك الدولة وفي القطاع الأمني من قبل حكومة لا ميثاقية ولا دستورية، محاربة الناس في أرزاقهم وحجز تعويضاتهم عن بيوتهم التي دمرتها إسرائيل… ثم يقولون ٧ أيار وجرح لن يندمل، وما إلى ذلك من الكلام الفارغ.
Leave a Reply