من العادات الشائعة في بعض المناطق اليمنية، أن تذهب العروس “العذراء” الى بيت الزوجية يوم عرسها، وبصحبتها امراة أخرى تسمى “الشارعة”. هذه “الشارعة” لا تفارق العروسة الا بعد أن تقوم بمهمة خاصة جدا في تهيئة العروسة للمعاشرة الزوجية، بحضور الزوج العريس، وعلى فراش الزوجية. وكلمة “شارعة”، هي تأنيث الفاعل الذي مذكره “شارع”، وجذر الكلمة “شرع” بفتح الشين والراء والعين، وشرع بمعنى بدأ، كأن يقال مثلا: شرع الرجال في البناء، وشرعت، سعدية في الغناء، وعلى ذلك فـ” شارع” يعني بادئ، والشارع، يعني “البادئ” والشارعة تعني “البادئة”. الى هنا فان مهمة الشارعة على النحو الموصوف سابقا، هي خرق “بكارة” العروسة “بأداة” محددة هي “أصبع الشارعة”. وعلى العريس أن يطلق عيارا ناريا من النافذة (لا أدري ما الذي كان يتعين عليه أن يطلق قبل ظهور السلاح الناري ..!) وذلك فور رؤيته لأي كمية من الدم “الطازج”!. فيبادله “الشواعة” (وهم الرجال الذين رافقوا العروسة من بيتها الى دار العريس)، باطلاق زخات من الاعيرة النارية في الهواء، ابتهاجا بالحدث السعيد!، وتحية للعروسة التي شرفت القبيلة وصانتها من مذلة العار بين القبائل والأمم..! ثم تمطر الأرض السماء بالأعيرة النارية التي يطلقها بكثافة رجال قبيلة العريس ابتهاجا “بفحولة” العريس، واعلانه برهان “رجولته” وانضمامه العملي الى فيلق الذائدين عن حياض القبيلة وصون حماها. بينما تواصل جماهير النساء اطلاق الزغاريد الشجية، يوقد الأطفال المشاعل على أسطح المنازل، وفي ساحات القرية وطرقاتها، وتصدح الأصوات بأحلى الأغنيات، ويزدهي السمر، حتى سويعات السحر، بألعاب الكبار ومرح الصغار. فإذا ما أنقضت الأيام الأربع التالية، أقبل أهل العروسة لزيارتها، في موكب يتقدمه رؤساء العشيرة ونقباؤها، وأهل العروسة، يليهم القوم مابين راكب وراجل، جميعهم رافعي الهامات من شرف وفخر وعز، ينوء موكبهم تحت أثقال الهدايا، من الاطعمة، والفواكه، والأثاث، والمجوهرات، والحلي، والمواشي، وكثير من التعالي المصطنع والغطرسة الزائفة. فيستقبلهم أهل العريس، وعشيرته، وقومه، بما يليق من الترحيب والاكرام.
ومن البديهي أن يتبادر الى الذهن هذا السؤال: ماذا لو أن دما لم يظهر أصلا بسبب خلل عضوي في العروسة، نشأ بالخليقة، أو نشأ عن حدث بريء، أو بسبب حالة مرضية، او أن الشارعة أرادت لسبب أو لآخر الكيد للعروسة أو أهلها أو عشيرتها، أو كلهم أجمعين، فلم تؤد عملها على الوجه اللازم؟ والجواب الطبيعي، يؤكد بأن رؤوسا ستقطف، وسيكون رأس العروسة الجميلة في مقدمتها، علاوة على ما سيلحق الاسرة والعشيرة والقبيلة من مذلة وعار تتوارثه الأجيال المتعاقبة، وليس الخلل المفترض في العروسة وحسب، ولكنه قد يكون في العريس أيضا، اذ لايختلف الأمر عما هو الحال عليه في جانب العروسة، من حيث الخبرة والاختلالات العضوية وأسبابها، ولكن العريس يعاني علاوة على ذلك من مشكلات اضافية ناجمة عن الارهاق والسهر بسبب المشاركة في الاستعدادات واستقبالات الضيوف، وترتيبات الانتقال من مرابع الطفولة وميعات الصباء الى معامع الرجولة في مصارع البقاء، والخوف الشديد من الفشل في اداء “المهمة”، بل قل انها أخطر “مهمة” بالنسبة لرجل القبيلة (هذا عندما لا تكون الشارعة ضمن شخوص المسرحية طبعا)، الأمر الذي يؤدي الى انفعالات نفسية وعصبية غالبا ما تكون سببا لعدم القدرة على انتصاب العضو التناسلي، وحينئذ فان القبيلة ستحتقره وتسفهه، وتهينه، وتسقطه من عددها كلية، ويصير معيرة يلاحقه العار والخزي أينما ذهب.
وعلى الرغم من وضاعة الحرفة التي تؤديها “الشارعة”، وما تثير من تقزز واستهجان، الا ان الشارعة كانت تتمتع بمركز مرموق، يحيطها عامة الناس وخاصتهم، بهالة من التوقير والتبجيل، ولها من العناية والتكريم ما يفوق التصور، اما ردا لجميل أدته حقا، أو جميل أدعته كذبا، واما اتقاء لما قد تفعل من مكر وكيد، قد يحل على القبيلة بالويل والثبور. ومن المؤكد ان الشارعة كانت تتمتع بخبرة واسعة في مجال اختصاصها، قياسا بخبرة المجتمع الذي يذهب في المحافظة الى الحد الذي ينطبق على البيئة التي نتحدث عنها، ولا شك ان الشارعة، والحال كذلك، قد أسهمت في مواقف كثيرة في ستر الأعراض وحفظ الأمن والسلم بين العشائر، (دعونا نفكر بتخليد دورها وذكراها باقامة نصب وطني لها في احدى الساحات البارزة في العاصمة صنعاء، وذلك قبل أن تتبنى أمرها منظمة من المنظمات). وبالنظر الى الخطر المؤكد، الذي ينتج بنسبة عالية بسبب قصور الخبرة لدى العروسين، فان دور الشارعة لم يأت اعتباطا، ولكنه كان وليد انتكاسات ومآس مريرة غير مبررة في معظم الأحيان، وغير مبررة بما فيه الكفاية في بقية الأحيان، الأمر الذي أفضى الى وضع قواعد غير مكتوبة، تحفظ العلاقات وتصون الأعراض وتسهم في استتباب السكينة والأمن بين الناس فكانت الشارعة هي الجهاز الفني والقانوني لتنفيذ تلك القواعد.
لقد انحسر دور الشارعة، في السنوات الأخيرة، من المناطق التي عرفت فيها هذه الظاهرة في أرض اليمن، بل كادت أن تختفي أو تتخفى، فقد يكون لانتشار التعليم ووسائل الاتصال والمواصلات والاعلام وتنامي الوعي العام، والصحي منه على وجه الخصوص، تأثيراتها الايجابية في انحسار تلك الظاهرة، ومع افتراض التخفي في ممارستها (كما يحدث في عمليات الختان للفتيات في بعض منا طق اليمن أيضا)، فان انتقال الظاهرة من العلن الى الخفاء، يدل على أن الاستمرار في مزاولتها بدأ يقترن بالحرج، مما يعني انها في الطريق الى الزوال بمرور الوقت.
حكاية كهذه، لابد أن تستهوي الفتيان والفتيات الأميركيين، وتلهب الاثارة والاندهاش خيالاتهم، وتعتصرها اعتصارا، لاستحضار صور لجلال صحراء استوائية، بجدبها، وتوحشها، ولونها الممتد احاديا عبر الأفاق، وعواصفها الرملية، ووسائل بيئتها التقليدية، خيول، وجمال، وماعز وخيام، وبئر، ونساء كثر، وقلة قليلة تبقت من الرجال، وهياكل عظمية، تتراى فيها جماجم بشرية، وأطفال جثموا بوجوم على الرمل، في حضرة الكهنوت القبلي، مستسلمين لمبضعه القدري، لينقش في أدمغتهم الصغيرة، أعراف القبيلة ، وأسفارا همجية، وحياة القوم برمتها، مستودعة غصبا ما بين فخذي ضحية. وترتيبا على ماسبق أو من عدمه، فان هذه العادة أنتقلت الى أميركا بطريقة تنبئ بسوء النية ولا تبشر بخير، والمصيبة ان الجالية اليمنية تحديدا كانت محطة الوصول، مما يؤكد بان بعضا من رجال “الربع” فتنهم عز “الشارعة” ومجدها العالي، ورأوا في استنساخ الشارعة واحتراف مهنتها فرصتهم الباقية لتضييق الهوة السحيقة الكائنة بين الادعاء الزائف والواقع البائس، فتطوعوا “تبا” بنقل الفكرة الى المجتمع الأميركي ليضيفوا اليه بديعة من بدائع الفكر العربي، امعانا في اثراء الثقافة الأميركية.. لله يا شاذلي وابن علوان، المدد، المدد، المدد يا أوباما.
الأغرب مما سبق أن الرجال هنا قد اغتصبوا المهنة من النساء ظلما، ومن ثم فقد تحول الفاعل من صيغة المؤنث، “الشارعة”، الى صيغة المذكر ، “الشارع”. وليت ان تداعيات الحدث قد توقفت عند هذا الحد، بل انها تجاوزته، وتجاوزت كل حد. يا الهي، الم أقل اننا أمة لا تنتهي عجائبها، غطوا عيونكم واحبسوا أنفاسكم، واحضروا عقولكم، في جواري رجل “شارع”!، بل “شارعان”… ياويلي ، اني أرى “شارعين” يحومون من حولي، يتحرشونني ويتربصون بي، نظراتهم الوقحة تنزلق متفحصة أشيائي… وحركاتهم الماجنة تومئ الي بأدوات المهنة وعدتها، وقائمة بالمزايا… تخفيضات هائلة… تقسيط مريح، وكذا المضطجع..!، ضمان بعدم افشاء المعلومات الشخصية والأسرار…، خبرة طويلة ودقة في الأداء والمواعيد. “عدة حرفتهم” شتى، مابين عين، وأنف، ولسان، وشفتين، تواكبها اللمسات الفنية. مظاهرهم تأخذك بلا وعي وبلا ابطاء، الى جنائن “أمرؤ القيس” ورائعته “اللامية”.
أحدهم كانت “عدته” قلما صدئا، يتقيأ في الصحف الصفراء، يتبجح في متكآت الحي، يمتدح الذات بلا سبب، وبلا وهن، وبغير حياء رغم استياء “العارفين” ونفور الحاضرين، كل مراجعه ومناهله، ثرثرة “سيدة” طيبة، ريفية، أجمل مافيها أن تثغي، ببراء تها الفطرية. لكن “الشارع” هذا شططا، يجعلها أفلاطونية. مايخجل أن يتوسل أبدا، للصور المرصوصة على الجدران، أن تمنحه لحظة زهو عابر، أو شعورا زائفا بالانتشاء..! أخال له حليفا، أو ظل حليف، المحه يتوارى وجلا في الظل، يوغل في الظلمة مجرورا! أناديه، اخرج من شرنقة الموتى، من التابوت المسحور…من دائرة الأوهام.. يا شطر الروح، أحبك ألقا متوهجا، عنفوانا متمردا، أو كن أملا متجددا، لكن جوابا لايأتي، غير ارتداد رماد النداء. لكن ملامحه بيدي، كتب عليها باليحفور الأول، وفي تنزيل الرحمن، وبكل حروف البشرية، النسخة الأصلية.
الصور المرصوفة على الجدران بغير نظام، تفاجئك باطلاق الأنفاس البشرية، تبحلق في الانحاء، وفي الأشياء، بلا قصد وبغير هدى، فمقاصدها ليست أرضية، تنفعل أحيانا للاأحد يدري، بين عبوس وفرح، وبين صمت وصراخ، وبين وثب وانبطاح، لا أعرف معارجها على وجه التحقيق، هي، ربما، مرآة لأبراج، في مواقع فلكية. يا “شارعون”..!، هذا ملكوت فضفاض، يخرج عن سيطرة البشرية، وينافي كل شرائعنا وتجاربنا النوعية. وأرى الصبح، وقد أمسى في جيبي وجلا، لم ينم ليلته، أسفا من غدر الكذابين، خجلا من نقض الميعاد، كلفا باعادة ترتيب مواعيده، لكنه حتما سيدركنا، وغدا سيمشي في مواكبنا، وسيعقد مؤتمرا صحفيا، يعلن فيه رد الاعتبار “للشارعة”، ويسلط ضوءه الغني بفيتامين “دي” على مرض “الكساح”الاجتماعي، الذي يقزم قامة جاليتنا، ويطأطئ هامتها، بين جموع البشرية، وسيعلن بين عاصفة التصفيق، صلاحيتنا للعيش، وفق الأعراف العصرية.
Leave a Reply