أثناء التحضير لاعتصامات الجالية في ديربورن احتجاجا على الاعتداءات الاسرائيلية على “اسطول الحرية”، وخلال إعداد اللافتات واللوحات، قلت ممازحاً الصديق حسن نعواش مدير “مكتب فلسطين في ميشيغن”: “كنت أظن أنه لديكم الكثير من اللافتات في “مكتب فلسطين”، لأن عمر هذه القضية طويل، وتاريخنا في التظاهر أطول!”.
في الحقيقة، ينبغي على “مكتب فلسطين” في ميشيغن أن يكون أكثر فعالية، ولا أعرف ما هي الطريقة المثلى لتنشيطه، لكنني أعرف أن صبية فلسطينية شاركت في الاعتصام، قالت لي: “لن يرهبونا، فليقتلوا منا ما شاؤوا فذلك لن يخفينا. وإذا ما صحت لي الفرصة للمشاركة في كسر الحصار المفروض على غزة، فلن أتردد لحظة واحدة”.
ومرة أخرى، من أجل التأكيد، لا التكرار، يجب على “مكتب فلسطين” أن يكون أكثر فعالية ونشاطاً، في بلد يواظب فيه الخصوم على صنع “لوبيات” وقوى ضغط تؤثر في القرار الأميركي أيما تأثير.
/
ليس باراك أوباما، بل جيمي كارتر.. سيكون الرئيس الأميركي الأكثر التصاقا في ذاكرتي، ولا علاقة للسياسة أو للتاريخ بذلك. السبب.. ذكريات الطفولة والمدرسة. فقد كنت في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي عندما شاركت في أول مظاهرة، وكانت فرحتنا –نحن التلاميذ- لا توصف، لأن أيام الاحتفالات والتظاهرات كانت بمثابة أيام عطل، فلا وظائف ولا دروس ولا صمت قسري ولا عقوبات. وقد أثار فضولي وانتباهي في تلك “المسيرة” وجود دميتين مصنعتين بطريقة بدائية. بيجامتا رياضة محشوتان بالقش: واحدة للرئيس الراحل السادات، والأخرى لشخص.. كان اسمه غريبا ومضحكاً، وكنا بالكاد نعرف كيف نردد اسمه. كانت الدمية الأخرى.. جيمي كارتر.
في تلك المسيرة، هتفنا حتى بحت حناجرنا، وقمنا بشنق الدميتين وسط الصراخ والهرج والمرج، وبعدها قمنا بإحراقهما وسط مشاعر من الفرح والبهجة. لكن اليوم التالي كان مختلفاً، حين جاءت إحدى الأمهات وهي تشتم إدارة المدرسة، حينما اكتشفت أن ابنها قد تبرع بـ”بدلة الرياضة” الجديدة لصنع دمية جيمي كارتر، وكانت الأم تشتم الجميع بمن فيهم الرئيس الأميركي، وكان الأمر مضحكاً وهي تحاول أن تلفظ اسم جيمي كارتر بالطريقة الصحيحة، دونما نجاح.
ابنها الذي كان اسمه حسن صار لقبه جيمي كارتر!
الآن وكلما شاهدت المذيع فيصل القاسم أو أحد ضيوفه وهم يتحدثون بحماسة عن الرئيس السابق جيمي كارتر (وتحولاته)، يأخذني الضحك، فلا أحد.. على الأقل من طلاب مدرستنا يأخذ “جيمي كارتر” على محمل الجد!
/
كنا نحب أيام التظاهر، خلال جميع مراحل الدراسة بما فيها الجامعة. في المدرسة الاعدادية كان “الآذن” أبو محمود هو المكلف بإعداد وتجهيز اللافتات واللوحات والصور والميكروفات (لسبب ما كانت معطلة دوما)، يساعده دائما طلاب مشاغبون.
وكانت الاحتفالات تجري وفق نظام رتيب ومضجر للغاية (ولكن لا بأس.. طالما أنه.. لا دروس)، فاستاذ اللغة العربية هو عريف الاحتفال، وتذاع أغان وطنية في البداية، ثم كلمات صاخبة وغاضبة، وشعارات، وتمثيلية رديئة يجري إعدادها على عجل.. ثم ينتهي الاحتفال أو المسيرة بالدبكة!
في نهاية الاحتفال يدبك الجميع، ماعدا الآذن أبو محمود الذي يبدأ بلملمة اللوحات واللافتات والصور لإعادتها الى المستودع، ليعيد ترتيبها هناك بنظام صارم، فكل شيء ينبغي أن يكون في مكانه، لأنه سوف يحتاجه في الأيام المقبلة. أبو محمود يفعل ذلك لوحده.. فالطلاب المشاغبون يدبكون الآن.
عندما دخلنا مع أبو محمود الى المستودع لإحضار اللافتات والصور، قال لنا: لا تقتربوا من هذه المجموعة. لماذا؟ قال هذه لوحات حرب تشرين! تركناها وأخذنا لافتات أخرى، لا بد أن المناسبة التي كنا نحتفل بها كانت مناسبة.. هزيمة.
تذكرت في مظاهرة ديربورن كلمات أبو محمود بألم: “هذه لافتات الحرب، لا تأخذوا منها شيئا”. أتذكرها الآن: لافتات قماشية ولوحات كرتونية وصور وشرائط ملونة يعلوها الغبار وخيوط العنكبوت وهي تقبع في زاوية صغيرة، في الوقت الذي كان فيه المكان ممتلئاً بكومات كبيرة للمناسبات الأخرى. مناسبات الهزائم بكل تأكيد!
أتذكرها الآن.. بمرارة!
Leave a Reply