همّت بشرب قهوتها بسرعة، إذ لم يعد لديها الكثير من الوقت -كالعادة- ولكنها فضلت أن تتأخر قليلا؛ فقد كانت بحاجة إلى تذكر حلمها.
كانت تعرف أنه تكلم إليها.. أخيراً.
سألها في الليلة الأخيرة: كم من السنوات ستضيع قبل أن تبلغي حلمك المنشود؟
أجابته بضع سنوات.
قال لها: لا عزيزتي ستنتظرين العمر كله، ستخرجين من حلقة مفرغة إلى أخرى. أوَ تظنّين أنني سأكون بانتظارك هناك ؟
قالت له ومن خلال قبلاتها: إنك تحبني.
إستيقيظت في الصباح التالي لتجد رسالته:
أتدرين لماذا ذبلت الوردة؟؟
(لقد ضممتها إلى صدري في لهفة وقلق..
لهذا ذبلت الوردة.. وهذا هو خداع الحب.)
ولأني أحبك سأرحل.. فقط إذكريني في البعيد حين ترين الورود.
بدأ هاتفها بالرنين، ولكنها لم تجب، فقد كانت تستمتع بهذا الصباح من بين صباحاتها المجنونة الخالية من الورود؛ حيث تقتلها الوحدة.
سألها يوماً: لماذا كل هذا الوقت والجهد؟
أجابته: إني أؤمن بتلك الرسالة الخالدة.
قال لها: ستملنيها يوماً، أتدرين لماذا إنطفأ المصباح؟
(لقد أحطته بردائي لأجعله في مأمن من الريح..
لهذا إنطفأ المصباح.. وهذا هو التهور.)
جميل يا حبيبتي هو الإيمان ولكن مع العقل؛ فبدونه تفقدين مصباحك.
نهضت ونظرت إلى مرآتها، ورأت كيف أن العمر قد بدأ يزحف الى وجهها رويداً رويداً؛ تاركاً بياضه على شعرها؛ رأت حياةً ملؤها العمل والملل؛ ولم تـرَ مصباحها.
ها هي اليوم في منتصف العمر، تعود يومياً إلى منزلها الفارغ، تبحث عنه وتعلم أنها لن تجد وروده. حاولت منذ زمن أن تبحث عنه ولكنها يئست لأنها تعلم أن كبرياءه تمنعه عنها.
كانت تـود لو تقول له:
أتعلم لماذا انقطع وتر العود؟
(لأني أردت إرغامه على تأدية نبرة عالية..
لهذا انقطع وتر العود.. وهذه هذ الكبرياء.)
يرن هاتفها مجدداً ولا تجيب؛ تقول لنفسها: “أليس هناك أحد غيري”؟
وتعلم -بخبرتها- أنه ليس هناك أحد في هذا الوقت؛ ليس هناك من رئيس للجراحين.
ولكنها لا تأبه؛ تفتح شباكها، تستنشق الهواء وتبتسم.
تبتسم لأنه كان حاضراً هذا الصباح كأنه لم يرحل. تعود لتبتسم مرة أخرى لعلمها أنه رحل.
تأخذ وقتها في إرتداء ثيابها؛ تصفف شعرها؛ تضع أحمر الشفاه و كحل العينين؛ كما لم تفعل من قبل.
تتجه أخيراً إلى المستشفى، ولكنها عوض أن تقصد عملها، تذهب لتناول الفطور حيث كانا يلتقيان؛ تستمتع بوجبتها بين رنات هاتفها.
تصل إلى المستشفى بعد أكثر من ساعتين على بدء دوامها.
إستقبلتها الوجوه واجمة؛ يقترب إليها أحد مساعديها ويسبق أسئلتها.
“حاولنا الإتصال بكِ مراراً ولكنك لم تجيبي. حصل حادث مروع وفقدنا المريض؛ لم نفلح بإنقاذه، لقد كنا بحاجة اليك”.
تتجه بغريزة الطبيب إلى غرفة العمليات.
تراه مسجىً أمامها، تحار ماذا تفعل..
قالت له؛ وهي تقبله:
هل تدري حبيبي لماذا جف النهر؟؟
(لقد أقمت حياله سداً ليخدمني أنا وحدي..
لهذا جف النهر.. وهذه هي الأنانية.)
ما ورد بين قوسين هي من كتاب “الخطايا الأربع”، للأديب الهندي رابندرانات طاغور، التي تمر ذكرى مولده هذه الأيام.
Leave a Reply