ثمة وجه شبه بين هيلين توماس المعروفة بعميدة صحافيي البيت الأبيض أو “أيقونة الإعلام الأميركي” وروزا بارك السيدة الأميركية الأيقونة التي فتحت قبل أكثر من نصف قرن أبواب الحقوق المدنية لمواطنيها السود في أميركا على مصاريعها، لحظة رفضت أن تخلي مقعدها على متن حافلة في إحدى مدن الجنوب الأميركي، لصالح رجل أبيض. دخلت حركة الحقوق المدنية للسود في أميركا حقبة جديدة منذ ذلك الحين. نحن الآن لدينا رئيس أسود في البيت الأبيض اسمه باراك حسين أوباما!
ماذا فعلت روزا بارك؟ لم تحمل مسدسا ولا قنبلة ولا حتى يافطة. استخدمت سلاحا أقوى من كل ما سلف: كلمة رفض للسياسات العنصرية. حطمت كل التابوهات. امرأة طرحت سؤالا على أمة برمتها. سؤال بديهي جدا ومغرق في البساطة: ما الفرق بيني وبين أي مواطن أو مواطنة أميركية؟
فجر هذا السؤال ينابيع جديدة من النضال في المجتمع الافريقي الأميركي وأسس لمجتمع أميركي خال من التفرقة العنصرية.
ماذا فعلت هيلين توماس؟ أجابت على سجيتها عن سؤال لحاخام يهودي سألها رأيها وهي خارجة من البيت الأبيض، أمام تجمع لإحياء “يوم التراث اليهودي” عن اسرائيل. قررت توماس في لحظة أن تكشح النقاب عما يراود ملايين الأميركيين، لكنه يعصى على الخروج لأسباب “نفسية-سياسية” راكمتها عقود من الاستلاب والتعمية وتنميط طرائق التفكير وتسطيح الآراء.
ظلت صامتة أكثر من ستين سنة وهي ترى بأم عينها وتدرك بحدسها الاعلامي مدى التعسف في سياسة بلادها تجاه واحدة من أعدل القضايا على وجه الكوكب. أجابت السائل بالفم الملآن: “قل لهم أن يرحلوا عن فلسطين، فليعودوا إلى أوطانهم.. إلى ألمانيا وبولونيا وأميركا وسائر البلدان التي أتوا منها، واحتلوا أرضا وشردوا شعبا بأكمله”.
قررت هيلين توماس أن تكسر صمتها المزمن وهي على أبواب التسعين.. أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا.
ماذا حصل؟ تحولت أميركا بلد “حرية التعبير” الى “حديقة حيوانات” سياسية. تضج بالأصوات انهالت على هيلين توماس كل الاتهامات الممجوجة من كراهية اليهود الى معاداة السامية وتنمر عليها اعلاميون يزعمون احترام الرأي الآخر، اتهموها بالدعوة الى ابادة اليهود وقارنوا بينها وبين هتلر! لم يتأخر البيت الأبيض عن الالتحاق بتلك الحملة المسعورة. عبر الناطق باسمه عن استنكار الادارة وزعم أن آراء توماس لا تمثل الشعب الأميركي ومثيرة للخيبة! متى استفتت الادارة شعبها حول هذه المسألة التي خرجت من الاطار السياسي منذ زمن، لتدخل الحقل الأخلاقي وتضع السياسة، أميركية أو غيرها على منصة المحاكمة اليومية على أيدي شعوب بأكملها تسببت لها هذه السياسة بكوارث فظيعة؟
أجبرت هيلين توماس على الاعتذار تحت وطأة الحملات الشرسة التي أثقلت على سنها وجسدها النحيل. عادت وأعلنت عن “إيمانها القلبي” بالسلام الذي يجب أن يعم بين الشعبين، عبرت عن ندمها على الملاحظات التي ادلت بها وشددت على سلام يسوده الاحترام المتبادل والتسامح متمنية حلول ذلك اليوم، الذي لن تشهده توماس على الأرجح، نظرا للعلاقة الزمنية العكسية بين عمرها المتقدم وفتوة العنجهية والتزمت الاسرائيليين وابتعاد “شعب الله المختار” يوما عن يوم عن بلوغ أي سلام حقيقي مع الفلسطينيين والعرب.
لكن اعتذار هيلين لم يشفع لها، ولم يشف غليل منظمي الحملات التي شنتها القوى الداعمة لاسرائيل تحت مسميات عديدة. خسرت هيلين مهنيا ووظيفيا، عندما أرغمت على الاستقالة من منصبها كمراسلة لمجموعة هيرست الاعلامية في البيت الأبيض، لكنها ربحت نفسها وهي في شتاء العمر. التاريخ وحده سيحكم على توماس وهو تاريخ لن تظل كتابته حكرا على رعاة الظلم والاستبداد.
لنتذكر أن موقف رفض من امرأة سوداء أطلق العنان لتغيير وجه أميركا. من يدري؟ لعل هيلين توماس قد ضربت أول معول في القاعدة اللاأخلاقية للامبراطورية الاعلامية التي تحاصر عقول الأميركيين وتجوعها وتمنع عنها مواد الحقائق الأساسية حول صراع محكوم وفق منطق التاريخ بأن ينتهي لصالح أصحاب الحق.
حاول الفرنسيون تحويل الجزائر الى مستعمرة فرنسية. ماذا حصل؟ بعد حوالي قرن من الاحتلال وأكثر من مليون شهيد جزائري رحل المستوطنون الفرنسيون وعادت الجزائر لأهلها.
مثلهم حاول البريطانيون تنمية بذرة عنصرية بيضاء في أرض القارة السوداء. أنشأت نظام تفرقة عنصرية اضطهد أصحاب الأرض لعقود طويلة. ماذا حصل؟ توج المناضل الجنوب افريقي نيلسون مانديلا نضال شعبه وتضحياته بهدم النظام العنصري الأبيض من وراء قضبان السجن.
تتجه أنظار الملايين حول العالم هذه الأيام الى “بلد نيلسون مانديلا” لمتابعة المونديال!
تفككت دولة التفرقة العنصرية وتحول البيض من حكام أقلية الى مواطنين عاديين في دولة ترعى مواطنيها على قاعدة المساواة.
هيلين توماس لم تخطئ يوما قراءة التاريخ العنصري للصهاينة، لكنها خضعت مثل الكثيرين في عالمها الى معادلة السكوت يساوي السلامة، لكنها حملت عبئا ثقيلا في ضميرها المهني والأخلاقي لعقود طويلة، ثم قررت أن تلقي به على أعتاب البيت الأبيض. انسابت الحقيقة على شفتيها مثل شلال هادر. أنهت تجربة عمرها المديد في العمل الصحافي بكلمات مقتضبة. لخصت عمق قناعاتها وكسرت بشجاعة نسوية تعز لدى الكثير من الرجال ذلك الطوق الفولاذي من الصمت والنفاق في حضرة حكام أتقنوا سياسة المعايير المزدوجة وانتهاك أبسط القواعد الأخلاقية في العمل السياسي.
ثمة امرأة أخرى امتلكت جرأة الكلام ووضعت اصبعها على الجرح الفلسطيني: حنين الزعبي، النائب في البرلمان الاسرائيلي، عادت لتوها من المشاركة في “أسطول الحرية”. وقفت على منبر الكنيست لتدين جريمة حكومة نتنياهو بحق نشطاء السلام. فتصدت لها مهاجرة روسية من حزب “اسرائيل بيتنا”، محاولة منعها من الكلام. ردت عليها تلك الفلسطينية السمراء اللطيفة والهادئة بكلمتين هزتا أركان الكنيست: “عودي الى روسيا”.
ما أبلغ النساء وما أشجعهن عندما يبلغ سيل الظلم الزبى. امرأتان أحداهما ذات جذور عربية في عاصمة القرار العالمي وثانية تضعها التصنيفات الظالمة في عداد “عرب اسرائيل” وهي تحيا كل لحظة مأساة شعبها تحت الاحتلال.. امرأتان قدمتا أكثر المبادرات العربية فصاحة في كل لقاءات ومنتديات وقمم السلام والدبلوماسية “البراغماتية” التي شهدتها المنطقة طيلة ثلاثة عقود: مبادرة من بند واحد: “عودوا إلى بلادكم”.
متى وكيف يتبنى العرب هذه المبادرة؟.
المعذرة من هيلين توماس وحنين الزعبي.
فعرب الأندلس و”القصور الحمراء” يبكون كما النساء ملكا لم يحافظوا عليه كما الرجال، سلموا المفاتيح الى الرجل الطيب أردوغان معتقدين أن “عودة الخلافة” هي الحل الأسلم لضعفهم وهوانهم، ومتناسين ما قالته العرب قديما:
“ما حك جلدك مثل ظفرك”!
Leave a Reply