صبحي غندور
صحيحٌ أنَّ المواقف والتصريحات الصادرة عن مسؤولين رسميين أميركيين وأوروبيين ترفض الخلط بين الإسلام والعرب من جهة، وبين «الإرهابيين» من جهةٍ أخرى، لكن بعض وسائل الإعلام الغربية والعديد من السياسيين الغربيين يبثّون فـي كثيرٍ من الأحيان ما هو مصدر خوفٍ وشكٍّ وريبة فـي كلِّ عربي وكلِّ مسلم فـي أميركا وأوروبا.
فهناك مخاطر قائمة الآن على العرب والمسلمين فـي الغرب حصيلة مزيجٍ مركَّب الأسباب. فالمجتمعات الغربية، ولأكثر من عقدٍ من الزمن، تتحكَّم فـي ردود أفعالها السلبية مشاعر الخوف والغضب من العرب والمسلمين، منذ الهجوم الإرهابي على أميركا الذي فاجأ العالم كلّه يوم 11/9/2001، ثمّ ما تبع هذا الهجوم من أعمال عنف وإرهاب فـي أوروبا وغيرها خلال السنوات الماضية، وصولاً إلى ما حدث فـي فرنسا يوم 13/11/2015، وتهديدات «داعش» التي تشغل الآن العالم كلّه.
وحينما يكون المتَّهم (جماعات إرهابية بأسماء عربية وإسلامية)، فإنَّ الغضب الغربي سيتمحور حول كلَّ العرب والمسلمين أينما وُجدوا، ثم كيف سيكون حجم هذا الغضب إذا ما أضيف إليه ما زرعته منذ عقد التسعينات فـي عقول الغربيين، كتابات ووسائل إعلامية (مسيَّرة من قبل جماعاتٍ صهيونية أو عنصرية حاقدة) من زعمٍ حول «الخطر الإسلامي» القادم إلى الغرب!؟ وكيف سيكون أيضاً حجم هذا الغضب إذا ما صدر عن جهلٍ عام بالإسلام وبالعرب وبقضايا العرب والمسلمين؟ وكيف سيكون حجم هذا الغضب إذا ما اقترن بممارساتٍ سلبيةٍ خاطئة، قام ويقوم بها عددٌ من العرب والمسلمين حتّى فـي داخل المجتمعات الغربية التي تعاني من تضخّم عدد المهاجرين إليها، وما يحمله هؤلاء المهاجرون الجدد (من مختلف بلدان العالم) من طقوسٍ وعاداتٍ وتقاليد ومظاهر لا تندمج سريعاً مع نمط حياة المجتمعات الغربية!؟.
هنا تصبح المسؤولية فـي التعامل مع هذا الواقع الغربي عموماً مسؤولية مزدوجة على الطرفـين: العرب والمسلمون من جهة، والأميركيون والأوروبيون من جهةٍ أخرى.
فكلُّ الساحة الإعلامية الغربية مفتوحة لأبناء «السوء» لبثِّ سمومهم وأحقادهم على الإسلام والعرب، لكن أيضاً هي ساحة مفتوحة (ولو بظروفٍ صعبة) على «دعاة الخير» من العرب والمسلمين لكي يصحّحوا الصورة المشوَّهة عنهم وعن أصولهم الوطنية والحضارية. وكما هناك العديد من الحاقدين فـي أوروبا وأميركا على العرب والمسلمين، هناك أيضاً الكثيرون فـي الدول الغربية الذين يرفضون العنصرية ويريدون المعرفة الصحيحة عن الإسلام والقضايا العربية من مصادر إسلامية وعربية، بعدما لمسوا حجم التضليل السياسي والإعلامي الذي رافق الحرب على العراق فـي العام 2003، والتي جرى تبريرها بالحرب على الإرهاب.
فـي هذا العالم المستنفر الآن لمحاربة الإرهاب، تعود «المسألة الإسلامية» من جديد لتكون فـي صدارة الاهتمامات الإعلامية فـي الغرب عموماً، ولتكون عنواناً لأي عمل إرهابي يحدث من قبل أي شخص مسلم، بينما توصف الأعمال الإرهابية الأخرى، التي يقوم بها من هم من غير المسلمين، بأنّها أعمال عنف إجرامية فردية!.
مشكلة «العالم الإسلامي» ليست مع المسيحيين فـي الغرب، لأنّ «الغرب المسيحي» نفسه عانى من صراعات دموية حصيلة الصراع على المصالح بين حكّام دول «العالم الغربي»، وقد شهدت أوروبا الغربية فـي القرن العشرين حروباً لم يشهد العالم لها مثيلاً من قبل، جرت بين دول أوروبية مسيحية، يجمع بينها الموقع الجغرافـي الواحد كما يجمعها الدين الواحد والحضارة الواحدة.
إن الذين يسوّقون الآن فـي الغرب من جديد لفكرة «الصراع بين الإسلام والغرب» يريدون فعلا بهذه الدعوة جعل الغرب كلّه بحالة جبهة واحدة ضدّ الإسلام كموقع جغرافـي، وقلب هذا الموقع الجغرافـي هو الوطن العربي.
لكن هناك فـي داخل الغرب قوًى تريد التقارب مع العرب والمسلمين، كما هناك فـي داخل الغرب قوًى تريد العداء معهم. هناك فـي داخل الغرب قوى تتصارع مع بعضها البعض، وهناك فـي داخل العالم الإسلامي حروب داخلية على أكثر من مستوى. إذ ليس هناك جبهتان: غربية وإسلامية، بل هناك كتل متنوعة وقوى متصارعة فـي كلٍّ من الموقعين.
عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، جرت أعمالٌ إرهابية عنفـية فـي بلدان مختلفة تحت أسماء جماعات إسلامية كان يُرمز اليها، اختصاراً لمفاهيمها وأساليبها، بجماعات «القاعدة» رغم عدم تبعيتها لقيادة واحدة. وتُجدّد هذه المرحلة نفسها الآن من خلال ما قامت وتقوم به «جماعات داعش» من إرهاب ووحشية فـي الأساليب تحت راية «الدولة الإسلامية»!.
وخطورة هذا المزيج من ماضي «القاعدة» وحاضر «داعش»، أنه حوّل ما كان مجرّد كتاباتٍ فـي عقد التسعينات عن «العدو الجديد للغرب»، إلى ممارساتٍ ووقائع على الأرض، كان المستفـيد الأول منها إسرائيل والمؤسّسات الصهيونية العالمية، التي كانت تُروّج أصلاً لمقولة «الخطر القادم من الشرق»، والتي لها أيضاً التأثير الكبير على صناعة القرارات السياسية فـي أميركا وأوروبا. ولا شكّ أيضاً بأنّ أساليب الإرهاب والعنف المسلح بأسماء جماعاتٍ إسلامية، خدم بشكلٍ كبير السياسة التي اعتمدها «المحافظون الجدد» الذين حكموا الولايات المتحدة فـي مطلع العام 2001 وقادوا الحروب الأميركية فـي أفغانستان والعراق وما يُسمّى بالحرب على الإرهاب!.
فهناك عربٌ ومسلمون يقومون بخوض «معارك إسرائيليّة» تحت رايات وطنيّة أو عربيّة أو إسلاميّة، وهم عمليّاً يحقّقون ما كان يندرج فـي خانة «المشاريع الإسرائيليّة» للمنطقة من سعي لتقسيم طائفـي ومذهبي وإثني يهدم وحدة الكيانات الوطنيّة ويقيم حواجز دم بين أبناء الأمّة الواحدة، إضافةً إلى تسعير العداء بين «الشرق الإسلامي» و«الغرب المسيحي».
إنّ الغرب تحكمه الآن حالة «الجهلوقراطية» عن الإسلام والعرب والقضايا العربية، وهي الحالة التي تجمع بين مجتمع ديمقراطي تسهل فـيه تأثيرات وسائل الإعلام، وبين تضليل وتجهيل تمارسه بعض هذه الوسائل -عن قصد أو غير قصد – لمسائل تتعلّق بالعرب وبالمسلمين وبقضايا المنطقة العربية.
لذلك، من المهمّ أن يعمل العرب والمسلمون فـي أميركا وأوروبا على تعميق معرفتهم السليمة بأصولهم الحضارية والثقافـية وأن يقوموا بالفرز الفكري بين ما هو «أصيل» وما هو «دخيل» على الإسلام والثقافة العربية. كذلك، فإنّ من المهمّ أيضاً، إضافة إلى إدانة ما حدث من أعمال إرهابية، التشجيع على أسلوب الحوار الدائم بين المؤسّسات والهيئات العربية والإسلامية فـي أميركا والغرب، وبين غيرها من المؤسّسات والفاعلين بالمجتمعات المدنية لهذه البلدان. فهناك أطراف عديدة تريد فرز عالم اليوم بين «شرق إسلامي» موصوف بالإرهاب و«غرب مسيحي» محكوم بالعلمانيّة والديمقراطيّة.
إنَّ القليل من الفعل الإيجابي السليم خير من العزلة أو السلبية أو الإنفعال الكبير. وهذا ما يحتاجه الآن الوجود العربي والإسلامي فـي الغرب، ليس فقط فـي التعامل مع ظاهرة الإساءات المغرضة، بل أيضاً للمساهمة فـي إصلاح أوضاع عربية وإسلامية مهدّدة بالفرز والتفكّك والانشطار الطائفـي والمذهبي.
فتشويه الصورة العربية والإسلامية فـي الغرب رافقه، ويرافقه، عاهات وشوائب كثيرة قائمة فـي الجسمين العربي والإسلامي، ولذلك فإنّ تصحيح الذات العربية، والذات الإسلامية، يجب أن تكون له الأولوية قبل الحديث عن «تصحيح الصورة» فـي الغرب، علماً أنّ العرب يتحمّلون -بحكم المشيئة الإلهية- دوراً خاصاً فـي ريادة العالم الإسلامي، فأرضهم هي أرض الرسل والرسالات السماوية، ولغتهم هي لغة القرآن الكريم، وعليهم تقع مسؤولية إصلاح أنفسهم أولاً ثمّ ريادة إصلاح الواقع الإسلامي عموماً.
إنّ مواجهة نهج التطرّف تتطلّب من العرب الارتكاز إلى فكرٍ معتدل ينهض بهم، ويُحصّن وحدة أوطانهم، ويُحقّق التكامل بين بلادهم، ويُحسّن استخدام ثرواتهم، ويصون مجتمعاتهم المعرّضة الآن لكلّ الأخطار.
فالاختلاف والتنوع فـي البشر والطبيعة هو سنّة الخلق وإرادة الخالق، بينما دعاة التطرّف اليوم (وهم أيضاً ينتمون إلى أديان وشعوب وأمكنة مختلفة) يريدون العالم كما هم عليه، و«من ليس معهم فهو ضدّهم»!.
الفكر المتطرّف يستفـيد حتماً من أيّة شرارة نار يُشعلها متطرّف آخر فـي مكان آخر، فالحرائق تغذّي بعضها البعض، لكن النار مهما احتدّت وتأجّجت، فإنّها ستأكل فـي يومٍ ما -عساه قريباً- ذاتها، حتى لو تأخّرت أو تقاعست قوى الإطفاء عن دورها هنا أو هناك.
Leave a Reply