مرّة جديدة، تعود فلسطين إلى قلب الحدث، لتثبت مجدداً أنها القضية المركزية، التي يتناساها العرب، لا بل يواصلون تآمرهم عليها، رغم ما يبيّته المشروع الصهيوني المدعوم تاريخياً من الولايات المتحدة، في ظل أكثر حكومة تشدداً تحكم تل أبيب حالياً.
ما يجري في القدس المحتلة، من إجراءات تنكيلية، طالت هذه المرّة الحرم المقدسي، تؤشر إلى أن القضية الفلسطينية باتت في عين عاصفة جديدة، عقب الزيارة الأخيرة التي قام الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السعودية وإسرائيل، وما رافقها من «مبادرات» لإحياء عملية السلام المتعثرة منذ عهد الرئيس باراك أوباما.
بالنسبة إلى إسرائيل، يبدو الوقت مناسباً لتصفية القضية الفلسطينية في إطار المشروع الصهيوني، على الرغم من دعوة الإدارة الأميركية الجديدة لإحياء مفاوضات السلام التي لم تبد تل أبيب حماساً لها. فثمة متغيرات جوهرية تشهدها المنطقة العربية –لم يتسن قطافها بعد– منذ بدء ما سمّي بـ«الربيع العربي» الذي انقلب شتاءاً دامياً، حيّد الدولة العربية الوحيدة التي ظلت الشوكة العالقة في مشروع التسوية–التصفية، والمقصود بذلك سوريا، التي أرغمتها الحرب الدائرة فيها، بفعل تغلغل الأدوات التكفيرية للمشروع الصهيوني، على الانكفاء داخلياً.
الأمر نفسه، ينطبق بشكل أو بآخر على مصر، التي باتت بدورها أسيرة المواجهة الداخلية ضد الإرهاب، الذي تمكن من غرس شوكته في أرض سيناء، وراح يتغلغل أكثر فأكثر إلى الداخل – وادي النيل.
ومع أن مصر، باتت منذ نهاية التسعينات جزءاً من مشروع التسوية الإسرائيلية، المدعومة أميركياً، إلا أنها وحتى الأمس القريب ظلت محافظة قدر الإمكان على بعض الثوابت التي تعود إلى الحقبة الناصرية، ولا سيما داخل المؤسسة العسكرية، التي بقيت محافظة في عقيدتها القتالية على مفردات الصراع العربي–الإسرائيلي، قبل أن تتحوّل في الأمس القريب إلى مفردات «الحرب على الإرهاب».
ضمن هذا المشهد العربي، الذي انكفأت فيه كافة الجيوش العربية إلى الداخل، يأتي المتغير الأخطر، الذي من شأنه أن يحدد الكثير من المعطيات التي تصب في مصلحة المشروع الصهيوني، والمتمثل في المجاهرة الفاجرة التي باتت تصدر عن بعض الدول العربية وعلى رأسها السعودية بشأن الاستعداد للتطبيع مع إسرائيل، في خطوات بدأت خجولة منذ فترة، ولكنها باتت تتخذ مساراً تصاعدياً منذ إبرام الاتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى قبل عامين.
وإذا كانت التطورات المتلاحقة في الحرم المقدسي قد سلطت الضوء مجدداً على قضية فلسطين، إلا أن هذه الأحداث، ليست في الواقع سوى رأس جبل الجليد، في المشروع العدواني المتجدد، والذي يتعدى نطاق المدينة المحتلة، باتجاه إقليمي ودولي أوسع.
ربط الأحمر بالميّت
إجراءات التنكيل الإسرائيلية في الحرم المقدسي –وهي ليست وليدة اليوم– تأتي لتغطي على حدث أكثر خطورة في خضم الأحداث الجارية في المنطقة العربية الملتهبة بالصراعات، وهو اتفاق إسرائيلي–أميركي–أردني–فلسطيني بإحياء مشروع «قناة البحرين»، الذي سيتم بموجبه شق قناة مياه تربط البحر الأحمر بالبحر الميت، تصفه الأطراف المعنية بالخطوة الاستراتيجية.
وفكرة المشروع تعود إلى العام 1994، حين بدأ مسؤولون إسرائيليون وأردنيون يكشفون النقاب عن خطة لربط البحر الميت بالبحر الأحمر.
وفي عام 2002 كشفت الحكومتان الأردنية والإسرائيلية في مؤتمر قمة الأرض للبيئة والتنمية الذي عقد في جوهانسبورغ في جنوب أفريقيا عن مشروع «قناة البحرين».
وقوبل المشروع وقتها بغضب ورفض من الدول العربية، لكونه ينطوي على أبعاد تهدد مصالح الأمن القومي المصري والعربي.
وفي عام 2005، وقعت المملكة الأردنية وإسرائيل والسلطة الفلسطينية اتفاقا لشق «قناة البحرين».
ويتضمن المشروع مدّ أربعة أنابيب بين البحرين يصل طولها إلى 180 كيلومترا، وتنقل مئة مليون متر مكعب من المياه سنوياً من البحر الأحمر إلى البحر الميت لإنقاذ الأخير من الجفاف بحلول عام 2050، كما يقضي بإقامة محطة تحلية عملاقة للمياه في مدينة العقبة بالأردن لتوزيع المياه المحلاة على الأطراف الثلاثة.
وبررت السلطة الفلسطينية انخراطها في المشروع بأن الاتفاق يجبر إسرائيل على الاعتراف بهم كدولة مشاطئة للبحر الميت.
وبرغم مزاعم تل أبيب وعمان بأن «قناة البحرين» ستكون قناة لنقل المياه فحسب، ولن تكون ممرًّا للمواصلات المائية، إلَّا أن الحديث بات يدور اليوم عن قناة مائية تربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط مروراً بالبحر الميت، يوازيها مشروع سكة حديد تربط بين الكيان الصهيوني والأردن والمملكة السعودية.
هذا الأمر، كشف النقاب عنه وزير النقل الإسرائيلي إسرائيل كاتس حين أشار إلى أن الجانب الأميركي عبر عن حماسه لمشروع السكة الحديد، حين قُدمت إليه خلال جولة إقليمية.
ولكن في الواقع، فإن إسرائيل هي أكثر الأطراف استفادة من مشروع «قناة البحرين»، ليس فقط لأسباب تتعلق بالتطبيع مع الدول العربية، بل لكونه خطوة أولى نحو شق قناة تربط البحار الثلاثة، وتكون بديلة لقناة السويس، مما يجعل مرافئ إيلات وحيفا وأسدود مثلثاً محورياً في الملاحة الدولية وللتجارة البحرية العالمية، يفقد قناة السويس ومعها مصر أهميتها الاستراتيجة في الملاحة الدولية.
الجدير بالذكر أنه منذ بدء الحرب السورية في العام 2011، فتحت إسرائيل ميناء حيفا كممر للسلع القادمة من تركيا وأوروبا لنقلها بشاحنات إلى الدول العربية الواقعة في الشرق، لكن حركة السلع ظلت محدودة بسبب ضعف الطاقة الاستيعابية والاعتبارات السياسية الأخرى.
دور سعودي
انطلاقاً مما سبق، لا يمكن فصل مشروع «قناة البحرين»، وفي خلفيته مشروع السكك الحديد بين إسرائيل والأردن والسعودية من جهة، وبين مرفأي إيلات وأسدود من جهة ثانية، عن التحركات العسكرية والسياسية الخطيرة التي انتهجتها السعودية في الفترة الأخيرة.
ولا يقتصر الأمر في هذا السياق على التصريحات السعودية العلنية بالرغبة في بدء خطوات التطبيع التدريجي مع إسرائيل، فثمة ما هو أخطر من ذلك، يفسر الكثير من الاندفاعة السعودية غير المسبوقة في كسرها لكل الخطوط الحمر.
أبرز ملامح تلك الاندفاعة تبدّت مع إطلاق السعودية عدوانها على اليمن، بحجة محاربة الحوثيين، و«استعادة الشرعية». وفي الواقع، فإن الأشهر القليلة التي تلت بدء عملية «عاصفة الحزم»، كانت كاشفة لحقيقة العدوان السعودي، حين بات مضيق باب المندب الوجهة الفعلية للحرب المدمّرة التي ما زالت مملكة آل سعود عاجزة عن حسمها.
وبدا واضحاً إذاً، أن ثمة رغبة سعودية في السيطرة على واحد من أكثر الممرات المائية استراتيجياً في العالم، بما يمكن نظام آل سعود من موازاة السيطرة الاستراتيجية التي تحظى بها إيران، بحكم موقعها الجغرافي، على مضيق مواز في أهميته، هو مضيق هرمز.
وانطلاقاً من الرغبة السعودية في السيطرة على الممرات المائية، يمكن فهم بعض أسباب دعم المملكة النفطية لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر وإصرارها على انتزاع جزيرتي تيران وصنافير.
هذا الدعم، أخرج عملياً قناة السويس من المخططات القطرية، بعد سقوط خطة تنمية القناة بسقوط نظام «الإخوان» في صيف العام 2013، وهو المشروع الذي كان يفترض أن تستحوذ فيه قطر على حصة الأسد، بما كان سيمثل ضربة قوية للطموحات السعودية، من جهة، وتعزيزاً للنفوذ القطري المنافس إقليمياً.
وبسقوط المنافسة القطرية، ومجيء نظام موال للسعودية في مصر، بات ممكناً أمام مملكة آل سعود الاندفاع أكثر، في المسار التطبيعي مع إسرائيل، من بوابة الممرات المائية.
ولا يمكن في هذا السياق فهم الاستماتة السعودية في الاستحواذ على جزيرتي تيران وصنافير، سوى ضمن هذا السياق، فالأمر، بالنسبة إلى السعودية، يتجاوز مجرّد السيطرة على جزيرتين صغيرتين –إذا ما قورنتا بمساحة السعودية– في خليج العقبة، ليمتد إلى تحقيق هدفين خطيرين: الأول، استكمال السيطرة على ممرات البحر الأحمر، وأبرزها مضيق باب المندب (الهدف الفعلي للحرب على اليمن) ومضيق تيران (الهدف الفعلي لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية). وأما الهدف الثاني، يتمثل في نقل السيادة على تيران وصنافير إلى مدخل لتطبيع إلزامي مع إسرائيل، خصوصاً أن الجزيرتين جزء من اتفاقية كامب ديفيد.
انطلاقاً من ذلك، باتت خيوط التقاطع السعودي–الإسرائيلي واضحة، لا بل مكشوفة، سواء تعلق الأمر بـ«قناة البحرين» أو بمحور إيلات–أسدود، الذي سيفقد مصر أهميتها الاستراتيجية في أمن التجارة الدولية، وبالتالي سيهدد استقرارها الأمني والاقتصادي.
وفي الواقع، فإن هذه المشاريع ليست وليدة الأمس القريب، وهو ما يمكن قراءته في كتاب صادر عن وزارة الحربية المصرية في العام 1969، بعنوان «أضواء على سيناء»، وهو يكشف أطماع إسرائيل في بناء قناة من إيلات إلى البحر المتوسط، لكي تنافس بها قناة السويس، كما يؤكد أنه، لهذا السبب، فإن «المجتمع العربي» لن يسمح لمصر بالسيطرة على أراضيها المطلة على مضيق تيران.
تآمر «المجتمع العربي» –المقصود بذلك طبعاً «الرجعية العربية»، وفق الأدبيات الناصرية في ذلك الحين– يتجدد اليوم، على أيدي السعودية، من خلال رغبتها في الاستحواذ على تيران وصنافير، لتصبح بذلك جزءاً من المشاريع الإسرائيلية التاريخية، والمتجددة اليوم، بهدف حفظ النظام السعودي من الهزات الإقليمية والدولية الكبرى على وقع الحرب على الإرهاب، لتتصل بذلك زاويتا هلال المشروع الأميركي من شبه جزيرة العرب إلى مشرقهم، بما يمثله ذلك من تحوّل كبير في المشروع الصهيوني الأكبر.
انتفاضة فلسطينية تغلي على أبواب الأقصى
القدس المحتلة – دعت الفعاليات الدينية والشعبية والشبابية ومختلف الفصائل الفلسطينية، الأربعاء الماضي إلى يوم غضب فلسطيني نصرة للقدس والأقصى، يشمل نفيراً عاماً في القدس ومواصلة الاعتصام قبالة بوابات الأقصى، إلى جانب مسيرات تعم أرجاء الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وتأتي هذه الدعوات رفضاً للبوابات الإلكترونية والإجراءات الأمنية المشددة التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي منذ يوم الأحد الماضي بالقدس القديمة والحرم القدسي الشريف، عقب العملية التي نفذها 3 شبان فلسطينيين يوم الجمعة الماضي في القدس المحتلة قَتلوا فيها جنديين إسرائيليين، واستشهدوا لاحقاً بنيران الاحتلال.
وأطلق الشبان وهم من بلدة أم الفحم العربية في إسرائيل النار على الشرطة الإسرائيلية في البلدة القديمة قبل أن يفروا الى باحة المسجد الأقصى حيث قتلتهم الشرطة.
وأغلقت القوات الإسرائيلية أجزاء من المدينة القديمة في القدس السبت الماضي وبقي المسجد الأقصى مغلقا حتى ظهر الأحد عندما فتح بابان من أبوابه أمام المصلين بعد تركيب أجهزة لكشف المعادن، فرفض مسؤولون من الأوقاف الاسلامية الدخول إلى المسجد وأدوا الصلاة في الخارج.
وقال مفتي القدس الشيخ محمد حسين، الاثنين الماضي، إن دار الإفتاء بالقدس تمنع دخول المسجد الأقصى من البوابات الإلكترونية، مضيفاً أن كل من يدخل عبرها للأقصى صلاته باطلة.
وتوجه خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، للفلسطينيين بالقول: «عليكم بالصلاة خارج المسجد الأقصى عند البوابات الإلكترونية.. ولا تدخلوا من خلال البوابات مطلقا».
وذكرت مصادر إسرائيلية أنّ تل أبيب بدأت زرع كاميرات مراقبة على أبواب الأقصى ما قد يكون تمهيداً لفرضه كـ«حل وسط» مع الأردن لإزالة البوابات الالكترونية لاحتواء ردود الفعل على إغلاق المسجد الأقصى، واستباحة مئات المستوطنين ساحاته، في ظل اعتداءات متواصلة على المرابطين فيه.
من جهتها، دعت حركتا حماس والجهاد الاسلامي في قطاع غزة الى مسيرات حاشدة تضامنا مع المسجد الاقصى في بيان مشترك طالب «بوقف الإجراءات الصهيونية ورفع يد الحكومة المتطرفة عن المسجد الأقصى المبارك، وعودة السيادة عليه لدائرة الأوقاف الإسلامية كما كانت».
ومن جانبه، قال رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذوكس المطران عطالله حنا إنّ سلطات الاحتلال الإسرائيلي تستغل الانقسام الداخلي الفلسطيني والأوضاع العربية وأنّ الأقصى يمر بظروف لم يمر بها منذ عام 1967.
ولفت حنا إلى أنّ بعض العرب تخلّوا عن فلسطين وقضيتها وأن هؤلاء أغدقوا بالمال على الإرهاب، مؤكداً أنّ «الأقصى ينتظر من كل شرفاء الأمة العربية أن يكونوا إلى جانبه».
واعتبر المطران حنا أنّ الاعتداء على الأقصى هو بمثابة اعتداء على كنيسة القيامة، وفلسطين هي شعب واحد وقضية واحدة، قائلاً إنّ هذا المسجد «يمر بظروف لم يمر بها منذ عام 1967 وإسرائيل تسعى لتمرير مشاريعها فيه».
يذكر أن أولى انتفاضات الشعب الفلسطيني في عام 1929 كانت ثورة البراق وآخرها في عام 2000 كانت انتفاضة الأقصى.
Leave a Reply