صبحي غندور
يوم 25 أيار (مايو) عام 2000، كان يوم ذلٍّ ومهانة لإسرائيل ولجيشها ولعملائها في الشريط الحدودي مع لبنان. لكن هذا اليوم كان من دون أيّ شك، يوم كرامة واعتزاز لدى عموم اللبنانيين والعرب في أوطانهم، كما في أيِّ بقعةٍ من الأرض تواجدوا فيها.
ففي هذا التاريخ انهزم الاحتلال الإسرائيلي في لبنان بعد مقاومة متواصلة بدأت مع احتلال إسرائيل لبيروت عام 1982، ثمّ تصاعدت هذه المقاومة وقويت حتى حرّرت الأراضي اللبنانية واستعادت ما احتلته إسرائيل منذ آذار (مارس) 1978.
ولعلَّ قيمة هذا الحدث أو الإنجاز بالنسبة إلى العرب ككل، أنّه لأوّل مرّة منذ بدء مسيرة المفاوضات العربية مع إسرائيل، ومنذ بدء معاهدات الصلح معها، ومنذ بدء الاعتراف بها، تضطرّ إسرائيل وللمرّة الأولى في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي للانسحاب الكامل من أرضٍ عربية، دون تفاوض أو اتفاقيات فقط تنسحب بسبب المقاومة لهذا الاحتلال، وما سبّبته هذه المقاومة على مدار سنوات من خسائر بشرية كبيرة في الجيش الإسرائيلي وضباطه وجنوده وعملائه، حيث أنّ هذه الخسائر فاقت حجم مجموع ما خسرته إسرائيل في حروبها المتعدّدة مع الجيوش العربية.
كان درس المقاومة في لبنان مهمّاً لكلّ العرب: فبعد سنوات من مراهنات وحيدة على «عملية السلام» خلال حقبة التسعينيات، وعلى المفاوضات مع إسرائيل منذ توقيع معاهدات «كامب ديفيد»، وعلى تطبيع العلاقات معها قبل استرجاع الحقوق العربية وقبل حلّ جوهر الصراع، أي القضية الفلسطينية.. جاء درس المقاومة اللبنانية ليؤكّد أنّ «الحرية تؤخذ ولا تُعطى»، وبأنّ «الحقّ بغير قوّةٍ تدعمه هو حقٌّ ضائع».
فالحقّ اللبناني بتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 425 كان عمره أكثر من 22 عاماً، منذ العام 1978، لكن إسرائيل لم تستجب إلى هذا «الحقّ اللبناني» المدعوم بالشرعية الدولية إلا حينما رافقت هذا الحقّ قوّة المقاومة للاحتلال. أيضاً، استفادت هذه المقاومة من دعم أنصار هذا الحقّ عربياً وإقليمياً ثمّ التضامن العربي معها ومع حقّ لبنان بالمقاومة المشروعة.
ولقد خرجت أصوات وكتابات لبنانية قبل إنجاز التحرير تطالب بتسريح المقاومة اللبنانية وبعدم جدواها وبأنّها تكلّف تضحياتٍ كثيرة للبنان وشعبه، بينما الآخرون العرب في مسارٍ آخر! وترافقت هذه الحملة آنذاك مع تصريحات أميركية وإسرائيلية تصف المقاومة بالإرهاب، وتحاول زجّ التناقض بينها وبين المنطقة العربية وحكوماتها وشعوبها من خلال وصف المقاومة بأنّها (حالة إرهابية إيرانية).
لكن جاء يوم 25 أيار 2000 فكان شرفاً عظيماً للبنان ولمقاومته الوطنية بأن يحصل الانسحاب الإسرائيلي دون اتفاق أو مفاوضات تحفظ ماء وجه المحتل حينما ينسحب، كما حدث على جبهاتٍ عربية أخرى.
ولقد راهنت إسرائيل على أنّ انسحابها المفاجئ والسريع سيكون حالةً مشابهة لما حدث بعد انسحابها من الجبل اللبناني عام 1983، حيث استتبع الانسحاب معارك عسكرية واسعة بين الأطراف اللبنانية المسلّحة هناك، وبطابع طائفي، دفع لبنان ثمناً غالياً له. لكن هذه المراهنات الإسرائيلية سقطت كلّها. وقد أضاف الأداء السليم للمقاومة في التعامل مع لحظة الانسحاب الإسرائيلي السريع والمفاجئ، إلى ما حقّقته المقاومة من رصيدٍ هامٍّ جدّا على صعيد العمليات العسكرية، كذلك حرصت المقاومة اللبنانية على التأكيد أنّ الانتصار هو لكلّ اللبنانيين ولكلّ المناطق ولكلّ الطوائف
إنّ سلاح المقاومة لم يحرّر لبنان فقط من الاحتلال الإسرائيلي، بل كان له الفضل فيما يشير الآن البعض إليه من أهمية السيادة اللبنانية على كلّ الأراضي اللبنانية. فإنهاء الاحتلال الإسرائيلي كان هو المدخل لسحب القوات السورية على مراحل، ثمّ انسحابها الكامل من لبنان تنفيذاً لاتفاق الطائف، إذ هل كان ممكناً المطالبة بانسحاب القوات السورية بينما إسرائيل تحتل جنوب لبنان وبعض من بقاعه؟ ثم هل كان ممكناً مطالبة المسلحين الفلسطينيين بعدم الانتشار المسلّح خارج المخيمات لو كانت هناك قوات إسرائيلية محتلّة في مناطق هذه المخيمات؟
إنّ الهزيمة العسكرية الإسرائيلية في لبنان لم تكن هزيمة كاملة للمشروع الصهيوني فيه، فإسرائيل لم تتراجع بعد، عن مشروعها الهادف إلى تقسيم لبنان وكل المنطقة العربية، وتشجيع الصراعات المحلّية المسلّحة والحروب الأهلية فيها.
لقد كانت السنوات الماضية حافلةً بالتطوّرات والمتغيّرات اللبنانية والعربية والدولية. وكم هو مؤسف،ٌ الحال العربي واللبناني اليوم، مع ظهور تصدُّع ببنية تكامل عناصر كثيرة (لبنانية وعربية وإقليمية) كانت في العام 2000 وراء الانتصار على الاحتلال الإسرائيلي، ومع تحوُّل سلاح المقاومة اللبنانية بنظر البعض اللبناني، وقوى عربية وإقليمية ودولية، إلى اعتباره مشكلة ومصدر أزمات في لبنان والمنطقة!
إنّ إسرائيل هي المسؤولة عن تهجير مئات آلاف الفلسطينيين إلى لبنان وهي سبب ما حدث على أرضه من مشكلة «السلاح الفلسطيني» التي كانت ذريعة البعض لبدء الحرب الأهلية عام 1975، والاجتياحات الإسرائيلية عامي 1978 و1982 التي سببت وجود ظاهرة المقاومة اللبنانية بعد خروج المقاتلين الفلسطينيين من معظم لبنان. فلماذا لم تتحرّك القوى الدولية الكبرى، وخاصّةً الولايات المتّحدة، للضغط على إسرائيل بعد حرب 1982، وخروج المنظّمات الفلسطينية المسلّحة، من أجل تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 425! ترى لو جرى إجبار إسرائيل على تنفيذ القرار، هل كان هناك أي داعٍ لقيام مقاومة لبنانية مسلّحة؟
اليوم، نعيش حالة انحطاط عربي شامل بعدما استباحت قوى أجنبية (دولية وإقليمية)، وبعض الأطراف العربية، استخدام السلاح الطائفي والمذهبي والإثني في حروبها وصراعاتها المتعدّدة الأمكنة والأزمنة.
حتى أن المقاومة ضدَّ الاحتلال قد أصبحت عِرقاً ومذهباً لدى الرافضين لها، فإنْ كنتّ تقاوم الاحتلال الإسرائيلي فأنت إمّا «إيراني» أو «متشيّع»! حتى لو كنت في غزّة والأراضي الفلسطينية المحتلة. فلقد تشوّه في هذا الزمن الرديء مفهوم «الشهادة»، حيث امتزج، في هذا المفهوم، «القاتل» في حروب أهلية مع «المقاوم» ضد الاحتلال الإسرائيلي!
طبعاً، فإن الخروج من هذا الحال العربي الردئ يتطلّب أولاً كسر القيود الدامية للشعوب، وفكّ أسر الإرادة العربية من الهيمنة الخارجية، وتحرير العقول العربية من تسلّط الغرائز والموروثات الطائفية والمذهبية الخاطئة.
لكن مشعل المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، الذي قد تحمله هذه الجهة أو تلك، في لبنان أو فلسطين، لا يجب أن يخمد أبداً، إذ قبل «حزب الله» في لبنان وحركة «حماس» في غزّة وغيرهما من المنظمات ذات الاتّجاه الفكري الإسلامي، الذي قد يختلف البعض الآن معه، كانت «حركة فتح» ومنظمات أخرى ذات اتجاهات فكرية وسياسية مختلفة تحمل هذا المشعل. فالحفاظ على نهج المقاومة هو تأكيد لمقولة (الأرض مقابل المقاومة) بعدما ثبت فشل المقولات الأخرى، وفي هذا الأمر أيضاً تأكيد لحيوية نهج تحتاجه الآن المنطقة العربية، وهو نهج رفض الذلّ والهوان من اجل استعادة الأرض والكرامة.
هذه هي دروس تجارب المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وقد تتغيّر الأسماء والقيادات والمنظمات والعقائد السياسية، لكن لن يتغيّر أو يتوقف حقّ الشعوب في مقاومة الاحتلال، والنصر على المحتل ولو بعد حين!
Leave a Reply