كمال ذبيان – «صدى الوطن»
تزامنت الذكرى الـ45 لاندلاع الحرب الأهلية في لبنان، مع جائحة فيروس كورونا، حتى بات اللبنانيون يتندّرون على السنوات المشؤومة التي أقعدتهم في الملاجئ، بينما يحبسهم الفيروس التاجي المتفشي في العالم في منازلهم.
الفتنة اللبنانية
في 13 نيسان 1975، اشتعلت الفتنة في لبنان، وكانت شرارتها حافلة تقل مدنيين فلسطينيين، أو «بوسطة عين الرمانة» كما تعرف شعبياً، حيث فتح مسلحون من «حزب الكتائب» النيران على البوسطة في ضاحية عين الرمانة المجاورة للعاصمة بيروت، بعد قليل من مشاركة المهاجمين في قداس لأحد عناصر «الكتائب»، جوزف أبو عاصي بحضور رئيس الحزب الشيخ بيار الجميّل.
لقد شكّلت تلك الحادثة بداية «المؤامرة الأميركية–الاسرائيلية» على لبنان والتي خطط لها وزير الخارجية الأسبق هنري كيسينجر، لاقتلاع المقاومة الفلسطينية من لبنان، بعدما تولت الفصائل الفلسطينية مهمة قتال إسرائيل عقب هزيمة الأنظمة العربية في العام 1967.
منذ النكسة، تحوّلت المخيمات الفلسطينية إلى معسكرات للتدريب والتسليح، وظهرت فصائل ومنظمات بأسماء متعددة، وأخذت حركة «فتح» من منطقة العرقوب في الجنوب، والتي تحاذي جبل الشيخ وبحيرة طبريا والجليل الأعلى في فلسطين المحتلة، قواعد انطلاق لعمليات فدائية، كان الرد الإسرائيلي عليها في الجنوب وصولاً إلى بيروت، وهو ما حرّك أطرافاً لبنانية في السلطة وخارجها للاعتراض على الوجود الفلسطيني المسلّح الذي كان يُعرف بـ«الكفاح المسلّح»، وحصلت صدامات في بعض المناطق مع الجيش، كما مع حزبي «الكتائب» و«الوطنيين الأحرار»، إلى أن تمّ تشريع هذا السلاح بإتفاق القاهرة عام 1969.
الاتفاق لم ينه الصراع، بل انقسم اللبنانيون بين مؤيد ومعارض له، فاستغلّت واشنطن الأوضاع لإطلاق مشروعها «للسلام» في المنطقة بما يخدم إسرائيل، فرفض الأميركيون حق العودة، ورأى الإنعزاليون في لبنان، والمؤيدون للسلام مع العدو الإسرائيلي، و«حياد لبنان» تحت شعار «قوة لبنان في ضعفه» ودبلوماسيته وأصدقائه.
كانت الفرصة مؤاتية للكثيرين للتخلّص من «السلاح الفلسطيني»، الذي اتهمه الكثيرون بأنه يسعى لإقامة سلطة لمنظمة التحرير في لبنان، لاسيما مع انخراط الفلسطينيين بدعم «الحركة الوطنية» والقادة المسلمين لاسيما منهم السُّنّة الذين طالبوا بالمشاركة في الحكم.
توسّعت الحرب وامتدت لمدة 15 عاماً، تحت عناوين شتى، ودخلت إليها وعليها عوامل دولية، كالحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي، وإقليمية في صراع محاور، بين مَن يؤيّد الحل السلمي للصراع العربي–الصهيوني، ورافض له، وذلك بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس وعقد إتفاق «كامب ديفيد»، والذي مهّد الطريق لغزوين صهيونيين للبنان 1978 و1982، في محاولة إسرائيلية حثيثة لإسقاط البندقية الفلسطينية.
بعد الاجتياح، تمكنت إسرائيل من عقد اتفاق سلام مع لبنان بعد وصول بشير الجميّل للرئاسة ثم شقيقه أمين إلى السلطة، لكن هذا المشروع سقط مع ظهور المقاومة الوطنية ثم الإسلامية، فانهار اتفاق 17 أيار 1984، وتغيرت التوازنات السياسية في لبنان رغم انسحاب منظمة التحرير.
اتفاق الطائف
هذه الحرب المتعددة المشاريع والتدخلات الخارجية التي شهدت انهيار المشروع الصهيوني في لبنان، بمواجهة المشروع الوطني المدعوم من سوريا، أوصل إلى عقد اتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب الأهلية في مطلع التسعينيات برعاية سعودية وتوافق دولي–إقليمي حوله شمل تكليف سوريا بتنفيذ بنود الاتفاق، فأنهت دمشق ظاهرة تمرّد العماد ميشال عون، وفتحت المعابر بين المناطق، وتمّ حل الميليشيات وسحب السلاح، وعادت المؤسسات الدستورية إلى الانتظام بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة.
غير أن تطبيق اتفاق الطائف لم يشمل تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، كما لم تجر انتخابات نيابية على قانون خارج القيد الطائفي، وتأسيس مجلس شيوخ، واعتماد اللامركزية الإدارية وتحقيق الإنماء المتوازن، وإلغاء طائفية الوظيفة، وهذا ما أدّى إلى بقاء النظام السياسي على قاعدة طائفية بحتة، تؤجج الأزمات السياسية والصراعات الأهلية.
الحرب تتجدّد في كل لحظة
فبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على اتفاق الطائف، فإن بنوده الأساسية لم تطبق لإرساء نظام مدني غير طائفي، وليس دولة مدنية كما يشاع، لأن دستور الدولة اللبنانية ما قبل الطائف وما بعده، والمعتمد منذ العام 1926 قبل الاستقلال وبعده في العام 1943، لم ينصّ على الطائفية في توزيع السلطات، بل اعتمد في ذلك على العُرف، بل أن المادة 95 من الدستور نصّت على أن الطائفية حالة مؤقتة، وسيتمّ التخلّص منها عند حصول صحوة وطنية، والتي غابت عن وعي اللبنانيين الذين لم يصلوا إليها بعد 15 سنة من حرب دموية قُتل فيها البشر ودمر الحجر، ووقعت مجازر وعمليات تهجير، وتحوّل لبنان إلى «كانتونات» طائفية.
كل تلك المآسي، أوجبت أن توضع بنود للخروج من الطائفية بشكل عام والسياسية بشكل خاص، بعد أن تحوّلت من نعمة إلى نقمة لا بل شرارة تهدّد بانفجار الحرب في كل لحظة، وقد شهد اللبنانيون على ذلك بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان الذي ضبط الوضع الأمني، كما الاستقرار السياسي برعايته للحل الذي كانت الطائفية تتسبّب بالازمات والصراعات على السلطة ونفوذها ومكاسبها، في تصادم صلاحيات بين السلطات، فتمّ اعتماد «الترويكا» كأسلوب عمل لتقاسم المغانم، فبدأت بين رؤساء الجمهورية ومجلس النواب والحكومة، مع مجيء رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة، لتصبح ثلاثية أيضاً بين الرئيس نبيه برّي والرئيس الحريري ووليد جنبلاط، وكان يحصد الحصة المسيحية أحياناً الرئيس الهراوي وفي أغلب الأحيان ميشال المر، بحيث لم تؤدِ هذه الصيغة إلى بناء دولة، ولا إلغاء الطائفية السياسية، وهذه مسؤولية يتحمّل جزءاً منها النظام السوري الذي كان له أدواته الأمنية والعسكرية في لبنان.
لم يعمل السوريون في لبنان لصالح بناء نظام لا طائفي، بل كانت «الترويكا» السورية المؤلفة من عبدالحليم خدام وحكمت الشهابي وغازي كنعان، تعمل وفق مصالحها، وتأمين مصالح «زبائنهم» الذين كانوا يعاملونهم بـ«دونية» حيث تروى روايات عن الإذلال الذي مورس من قبل هؤلاء على السياسيين اللبنانيين ومثلهم قادة أحزاب، فارتضى هؤلاء، ذلك من أجل الحصول على المكاسب في السلطة التي تقاسموها.
حراك نحو التغيير
ومع الخروج السوري الأمني والعسكري، ونفوذه السياسي من لبنان في العام 2005، أي قبل 15 عاماً، رأى اللبنانيون أنهم أمام نظام طائفي متجذر، وأن مَن كانوا يعتبرون «الأدوات السورية» في لبنان، ظلوا في السلطة، وإن بدلوا الأدوار، مع التقلبات السياسية التي مارسها وليد جنبلاط، أو الضعف الذي ظهر عليه سعد الحريري وريث «الحريرية السياسية» التي بدأت تتلاشى، ومرونة الرئيس برّي، الذي لم يخرج عن تحالفه الاستراتيجي مع سوريا و«حزب الله» لكنه حافظ على المعادلة الداخلية، فرعى طاولات حوار، وحمى جنبلاط، وسعى إلى أن يبقيه قريباً من التوجّه الوطني، بينما انتقل العماد ميشال عون من خصم لسوريا إلى حليف لها، وأقام تفاهماً مع «حزب الله»، ليكسب رئاسة الجمهورية.
كذلك أمسك «التيار الوطني الحر» الذي أسّسه عون، بالورقة المسيحية، تحت شعار «حقوق المسيحيين» حتى أصبح رئيس التيار، جبران باسيل، مثل برّي في الطائفة الشيعية، والحريري عند السُنّة وجنبلاط لدى الدروز، فجذرت هذه المعادلة الرباعية، النظام الطائفي الذي عارضه عون قبل ثلاثين سنة.
بل وضعت هذه المعادلة، اللبنانيين بوجه بعضهم البعض، وهو ما حصل في أكثر من مناسبة سياسية، حتى تزايد الغضب الشعبي المطالب بالتغيير والتخلص من الطبقة السياسية، سواء القديمة منها أو المستجدة،
وقد أظهر «الحراك الشعبي» الذي انطلق في 17 تشرين الأول من العام الماضي، الحاجة إلى «مؤتمر تأسيسي»، أو «عقد اجتماعي» جديد بين اللبنانيين، الذين خرجوا إلى الشوارع والساحات يعبرون عن رفضهم لاستمرار النظام الطائفي، الذي أبقاهم دون دولة قانون ومؤسسات، بل دولة مزارع ومحسوبيات ومحميات طائفية، تشجّع على نهب المال العام وفساد الحكومات المتعاقبة، ليرث اللبنانيون ديناً عاماً بحوالي 100 مليار دولار، بينما تحاول الحكومة استحصال 83,2 مليار، لتعويض الخسائر، التي ستكون على حساب المودعين، وهو ما بدأت تظهر معارضة له لا يكبتها إلا الخوف من وباء كورونا.45 سنة مرت على اندلاع الحرب الأهلية، عاش اللبنانيون منها ثلاثين عاماً في السلم، دون أن تقوم لهم دولة مواطنة، فمتى يفعلون؟
Leave a Reply