نبيل هيثم – «صدى الوطن»
كأنما العالم فـي حرب عالمية ثالثة. هي حرب غير تقليدية، ليس فـي ضراوتها ووسائلها المسلحة، وانما فـي طرفها الأساسي، تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي نقل ميدان حربه من سوريا والعراق، الى فرنسا، قلب أوروبا ورمزها، رداً على ما يعتبره «حرباً صليبية غربية»، والى أجواء سيناء، حيث استهدف طائرة الركاب الروسية، رداً على ما يعتبره «حرباً صليبية شرقية».
ولعل الحدثين الباريسي والسيناوي (الروسي) وضعا الكل فـي جبهة واحدة ضد من بات العدو الأوحد للبشرية جمعاء. على هذا الأساس، تجاوز الكرملين والاليزيه كل ما سبق من خلافات حول أوكرانيا وسوريا وغيرهما من الملفات، وصدرت التعليمات الى الجيشين الفرنسي والروسي بالتعامل كـ«حلفاء» ضد «داعش» فـي سوريا، فـي ظل دعوة باريسية تبدو مطابقة للمقترح الموسكوفـي بتشكيل تحالف دولي ضد الإرهاب مفتوحة أبوابه لكل الأطراف الفاعلة.
ويبدو أن الحدثين الباريسي والسيناوي قد مهّداً الطريق أيضاً أمام توافق اقليمي-دولي (لم تشوّش عليه سوى بعض الأصوات السعودية والتركية) لحل سياسي فـي سوريا، وفق مرحلة انتقالية تتفق مع الخطوط العريضة للتسوية التي قدمتها روسيا فـي اجتماعات فـيينا، التي كادت نسختها الثانية تفشل، لولا الهجوم «الداعشي» على باريس.
ولعل تبني «داعش» لهجمات باريس، التي يمكن وصفها بـ«11 أيلول الفرنسي»، مرحلة جديدة أطلقها جهاديوه خارج الحدود السورية والعراقية ليمد نفوذه أكثر فأكثر باتجاه دول بعيدة مستفـيداً من شبكة متمكنة وواسعة.
وأظهرت الهجمات الباريسية الإمكانات الهائلة التي يملكها «داعش»، والتي جعلته قادراً على تنفـيذ هجمات منسقة بهذا الشكل بعدما كان هدد منذ أشهر عدة باريس بـ«كابوس» لمشاركتها فـي التحالف الدولي ضد الجهاديين فـي العراق وسوريا.
ويبدو أن تلك الهجمات، وقبلها تفجير الضاحية الجنوبية وتفجير الطائرة الروسية، تندرجان فـي إطار مسار منطقي فـي استراتيجية تنظيم «داعش»، فهو يبتعد حالياً عن التمدد فـي سوريا والعراق، فـي ظل الضربات الروسية والأميركية، ويضمن أن لديه الزخم الكافـي لنقل ميدان المعركة الى خارج «حدود» دولته المزعومة.
وتمثل هذه الهجمات المرحلة الثانية لتنظيم «الدولة الاسلامية»، فهو بات مقيداً فـي الميدانين السوري والعراقي، ولذلك تراهم يبتعدون عن عمليات توسيع النفوذ فـي هذين البلدين، فـي اتجاه عمليات ذات طابع مختلف.
وليست مصادفة أن تتزامن هجمات باريس والضاحية الجنوبية وسيناء مع الخسائر التي مني بها التنظيم المتشدد فـي مناطق انتشاره، سواء فـي الشمال السوري (مطار كويرس)، أو فـي الشمال العراقي (تحرير قضاء سنجار).
ويبدو واضحاً، استناداً الى تجارب سابقة، ان «داعش» حين يجد نفسه من دون انتصارات فـي مناطق عملياته، يوسع دائرة العنف إمّا إقليمياً (مصر، اليمن، ليبيا، تونس، السعودية، الكويت… ألخ)، أو باتجاه الغرب، وخصوصاً فـي فرنسا (هجمات «شارلي ايبدو»، هجمات باريس الأخيرة)، التي تشكل بيئة أسهل من غيرها لاعتداءات مماثلة، لكونها سجلت أعداداً كبيرة من المقاتلين الأجانب الذاهبين والعائدين من سوريا، كما لديها عوامل أخرى مسهلة للإرهابيين، مثل القدرة على حيازة السلاح مقارنة مع دولة أوروبية أخرى.
علاوة على ذلك، فإن هجمات باريس أظهرت ان النزاع الدائر فـي سوريا والعراق لا يمكن حصره فـي هذين البلدين.
وربما هذا ما دفع بفرنسا والولايات المتحدة الى النزول عن شجرة التعنت إزاء المقترحات الروسية للحل فـي سوريا، وهو ما تبدّى خلال اجتماع فـيينا وقمة مجموعة العشرين.
ويبدو واضحاً أن الغربيين ادركوا أن النزاع السوري لا يمكن حصره، بل يجب إيجاد حل له، وليس عسكرياً فقط بل كذلك سياسياً.
وعلى هذا الأساس، كان ملفتاً تغير اللهجة الفرنسية سواء ازاء الملف السوري، او تجاه العلاقات مع روسيا، وهو ما تمثل فـي دعوة فرانسوا هولاند الى تشكيل تحالف دولي ضد «داعش» يضم روسيا، واختياره واشنطن، ومن ثم موسكو، لأولى زياراته الخارجية بعد هجمات الجمعة الدامية.
على هذا المنوال تنسج المعارضة الفرنسية، التي لم تتوقف منذ عام على انتقاد السياسة الفرنسية بالتحالف مع السعودية وقطر وتركيا ومواصلة الحرب ودعم المجموعات المسلحة من أجل إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد. ويخترق اليمين الفرنسي شبه إجماع أن السياسة الخارجية الفرنسية لم تعد مفهومة فـي ظل تصاعد خطر البؤرة الجهادية السورية على الأمن القومي الفرنسي، مع إصرار الإدارة الفرنسية على العمل لاستنزاف الجيش السوري الذي يقاتل، هو ايضاً، البؤرة الإرهابية.
الطريق الى ليلة الثالث عشر من تشرين الثاني، ومجازرها الدامية التي أوقعت 132 قتيلا، و352 جريحاً، مئة منهم فـي حال الخطر الشديد، لم يكن سلوكها قسرياً، ولا خياراً مفروضاً على فرنسا، على ما تقوله حتى الآن إجابات السياسيين على الرئيس الذي سيذهب الى تمديد حال الطوارئ فـي فرنسا من 12 يوماً مبدئياً، الى ثلاثة أشهر.
ومنذ مطلع العام الحالي، تحولت زيارات الوفود النيابية الفرنسية الى دمشق أحد مظاهر التمرد على الاليزيه، ومحاولة فتح قنوات موازية للعودة الى التعاون الأمني مع دمشق.
وخلال أربعة أعوام من الحرب السورية، ساهمت المؤسسة الأمنية والديبلوماسية بالتحضير لما شهدته باريس من هجمات وراكمت القرارات والتحليلات التي قادت باريس الى ليلة الثالث عشر من تشرين الثاني. ولعبت تقديرات الاستخبارات الخارجية الفرنسية دوراً كبيراً فـي حض قصر الإليزيه على إسقاط النظام السوري، وتسليح بعض الجماعات، ومدّها بالمعلومات الاستخبارية، وتدريبها.
وتقول مصادر عربية إن الفرنسيين قد أخلدوا ربما الى تطمينات تركية الى ان فرنسا لن تكون هدفاً لأي هجوم من «داعش»، نقلتها الاستخبارات التركية الى الفرنسيين خلال العام الحالي، بعد هجمات كانون الثاني الماضي ومقتلة «شارلي ايبدو».
ولكن التطمينات والضمانات قد تكون سقطت، مع مقتل الرجل الثاني فـي «داعش» أبي مسلم التركماني، وهو اليد اليمنى لأبي بكر البغدادي، فـي غارة شنتها الطائرات الأميركية على موكب تابع له فـي آب الماضي قرب الموصل.
وتقول المصادر إن أبا مسلم التركماني، وهو عميد سابق فـي الجيش العراقي، كان صلة الوصل بين «داعش» ورئيس الاستخبارات التركية حاقان فـيدان، وهو الذي فاوض معه حول إطلاق سراح الديبلوماسيين الأتراك بعدما احتجزهم «داعش» فـي حزيران العام 2014، بعد غزوه للموصل.
ويبدو هولاند محاصراً بانتقادات المعارضة الفرنسية، التي لم تنتظر انتهاء فترة الحداد الرسمي على أرواح ضحايا الهجمات «الداعشية»، لتصوّب على السياسات المتبعة من قبل الرئيس الفرنسي تجاه سوريا، والتي بدأت بتوفـير الغطاء لنمو الجماعات الارهابية، والتعامل مع «داعش» على انه ظاهرة تحت السيطرة «فـي حين أظهرت الوقائع منذ عام على الأقل عكس ذلك، علاوة على العمل على إضعاف الدول المركزية» ليبيا وسوريا بشكل خاص- واستنزاف الجيش السوري الذي يشكل وحده الحاجز الأخير أمام تمدد الجماعات الإرهابية، وتحويل سوريا الى بؤرة بديلة من أفغانستان قريبة من أوروبا.
ومن جهة أخرى، كان ملفتاً الاعلان الروسي-الأميركي بشأن التفاهم بين باراك أوباما وفلاديمير بوتين على أن تقوم الامم المتحدة بدور لانهاء سفك الدماء فـي سوريا، وسط تزايد مساعي القادة لتوحيد موقفهم ضد «تنظيم الدولة الاسلامية» عقب اعتداءات باريس الدموية.
وهكذا وضع بوتين وأوباما خلافاتهما جانبا وعقدا لقاء غير رسمي على هامش قمة مجموعة العشرين فـي تركيا التي أتت بعد يومين من هجمات باريس الدامية.
ووفقاً لما رشح من اللقاء، الذي استمر نحو 35 دقيقة، فإن النقاش تركز على الجهود الحالية لحل النزاع فـي سوريا، وهو الأمر الذي أصبح أكثر إلحاحا بعد الهجمات المروعة فـي باريس.
والملفت أن الاجتماع بين أوباما وبوتين -وهو الأول بين الرئيسين منذ بدء الحملة العسكرية الروسية فـي سوريا جاء فـي اعقاب تأكيدات من الكرملين والبيت الأبيض قبل يومين من الموعد- بأن لا لقاء مقرراً على جدول أعمال الرئيسين فـي انطاليا.
هكذا بدا واضحاً ان الهجمة الداعشية فـي باريس قد أسهمت، من حيث لا يدري المخططون لها، فـي تعجيل الحلّ السوري، وتخلي الكل عن التحفظات المتبادلة تجاه العمليات العسكرية ضد الارهاب.
ليبقى السؤال: هل تجاوزنا خطر قيام حرب باردة جديدة بين الغرب وروسيا فـي الشرق الاوسط… أم انتقلنا الى حرب عالمية ثالثة تجمع الحلفاء المفجوعين بعمليات الارهاب لمقاتلة «داعش»؟ وأما السؤال الأهم فهو: ماذا يخبئ «داعش» للغرب فـي هذه المواجهة المفتوحة؟
البلدان الأكثر تضرراً من الإرهاب
بلغت الهجمات الإرهابية حول العالم أعلى مستوياتها تاريخياً وهي فـي تصاعد غير مسبوق. وتبين احصائيات «المؤشر العالمي للإرهاب»، أن غالبية الضحايا يتركزون فـي خمس من الدول ذات الأغلبية المسلمة، فـي مقدمتها العراق. وأشار «معهد الاقتصاد والسلام» الذي أعد التقرير، الثلاثاء الماضي، إلى أن عدد ضحايا الهجمات الإرهابية فـي أنحاء العالم ارتفع بنسبة 80 بالمئة خلال 2014 مقارنة بالعام الذي سبقه، وهو أعلى مستوى يسجل فـي التاريخ.
فقد قتل 32 ألفاً و658 شخصاً على أيدي إرهابيين فـي العام الماضي، مقارنة مع 18 ألفاً و111 شخصاً فـي 2013، وهي أعلى زيادة مسجلة حتى الآن، حسب المعهد.
ويعرف التقرير الإرهاب بأنه «التهديد باستخدام أو الاستخدام الفعلي لقوة وعنف غير قانونيين من قبل شخص غير حكومي بهدف تحقيق هدف سياسي أو اقتصادي أو ديني أو اجتماعي من خلال التخويف والإكراه والتهديد».
ودرس «معهد الاقتصاد والسلم»، ومقره سيدني (أستراليا)، عدد الهجمات والقتلى والأضرار الناتجة عن أعمال إرهابية فـي 162 بلداً، مشيرا إلى أن تنظيم «داعش» وجماعة «بوكو حرام» النيجيرية مسؤولان عن أكثر من نصف عدد القتلى.
ووجد التقرير أن الإرهاب يتركز فـي مناطق معنية، وشكل عدد القتلى فـي خمس دول هي العراق ونيجيريا وأفغانستان وباكستان وسوريا، نسبة 78 بالمئة من إجمالي عدد ضحايا العام الماضي.
وقتل فـي العراق عام 2014 تسعة آلاف و929 شخصاً، وكان الأكثر تضرراً، إذ شهد أعلى عدد من الهجمات، وسقط فـيه أعلى عدد من ضحايا الإرهاب مقارنة مع أي بلد آخر على الإطلاق، حسب التقرير.
وكانت الدول الغربية أقل عرضة للهجمات، وشهدت بريطانيا أعلى عدد من الحوادث الإرهابية فـي الغرب، خاصة تلك المتعلقة بالمسلحين الجمهوريين فـي أيرلندا الشمالية، حسب التقرير.
ويقدر التقرير أن الكلفة الاقتصادية للإرهاب تصل إلى نحو 53 مليار، وهي أعلى كلفة على الإطلاق، وزادت 10 أضعاف منذ عام 2000.
قدرات إرهابية مثيرة للقلق!
لم يكن يخطر فـي بال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الذي كان يستمتع برفقة أكثر من ثمانين ألف متفرج فرنسي بمشاهدة مباراة منتخب بلاده التي جمعته بنظيره الألماني فـي مباراة ودية على ملعب «ستاد دو فرانس» أن لذة انتصار «منتخب الديكة» ستصبح مأتما عند بعض العائلات الفرنسية.
ويعجز العقل عن تصديق ما حدث. فتساؤلات كثيرة طرحت منذ اللحظة الاولى لهجمات باريس، ولعل أبرزها: كيف لعاصمة الأنوار التي تضرب بها الأمثال فـي الأمن أن تعجز عن كشف مخطط ارهابي على هذا النحو؟
ولكن الهجمات نفسها تقدم اجابات مهمة بشأن هذا الاختراق، كما تعكس نقلة نوعية فـي استراتيجية «داعش».
وبحسب خبراء أمنيين فإنه لا يمكن القيام بشيء أمام هجمات منسقة نفذها ما لا يقل عن ثمانية مسلحين وانتحاريين فـي ظل التكتيكات الامنية العالية التي بات يسكلها تنظيم «داعش»، الذي استفاد من خبرات هائلة من جهاديين خاضوا اعتى الحروب ضد الغرب على مدار عقدين من الزمن.
وفـي هجمات كتلك التي شهدتها باريس، فإن معظم المنفذين كانوا فرنسيين، أي أنهم متغلغلون فـي المجتمع الفرنسي، برغم رصد بعضهم من قبل أجهزة الأمن، وتصنيفهم ضمن فئة المسجلين كخطرين فـي سجلات الأمن العام.
ومع ذلك، الهجوم الأخير أظهر أن «داعش» قادر على إحداث اختراقات أمنية، إن لجهة تهريب بعض هؤلاء من سوريا (مكان التدريب) الى فرنسا (مكان التنفـيذ) ومن السهل عليه أيضاً تجنيد خبير فـي الداخل الفرنسي لتصنيع الاحزمة والسترات الناسفة، الأمر الذي يتطلب مهارات خاصة، يمكن توفـيرها سواء مباشرة، أو عبر شبكة الانترنت، بعدما أظهر التكفـيريون قدرة تكنولوجية عالية على التحرك فـي فضائه الإلكتروني بعيداً عن أعين أجهزة الأمن.
Leave a Reply