كمال ذبيان – «صدى الوطن»
بعد حوالي عام ونصف العام من الهدوء الأمني، منذ آخر تفجير وقع فـي منطقة الطيونة فـي 26 حزيران من العام 2014، تعود الضاحية الجنوبية الى مسلسل التفجيرات الذي بدأ فـيها خلال عامي 2013 و2014، مع ظهور الدور العسكري لـ«حزب الله» فـي القتال ضد الجماعات الإرهابية التكفـيرية فـي سوريا الى جانب الجيش السوري، حيث حقق الطرفان إنجازات ميدانية، تمثّلت فـي تحرير القصيّر مطلع صيف2013، لتتوسع العملية العسكرية باتجاه القلمون والزبداني، وتطهيرهما من الإرهابيين، وهو ما حدّ من العمليات الإنتحارية، التي كانت تعد فـي جبال القلمون لتدخل عبر عرسال، التي انطلق منها ومن جرودها الإرهابيون ففجروا فـي الهرمل واللبوة والنبي عثمان ورأس بعلبك ويونين، مستهدفـين مراكز الجيش والمدنيين، ولم تتوقف الأعمال الإجرامية، إلا بعد سيطرة المقاومة على السلسلة الشرقية من جهة القلمون وقارة وفليطا والطفـيّل…
وخلال العام ونصف العام من الإستقرار فـي الضاحية الجنوبية، التي إتّخذ فـيها الجيش والقوى الأمنية من أمن داخلي وأمن عام إجراءات أمنية مشددة، بالتعاون والتنسيق مع «حزب الله» الذي ضبط جهاز الأمن فـيه الأحياء والشوارع الداخلية، وأحصى السكان، ورصد تحركات المشبوهين، فلم يلقِ القبض على مشتبهين لأن المجتمع حاضن للمقاومة، الذي حاول التكفـيريون إرهابه، ليمتنع عن تأييد «حزب الله» فـي القتال الى جانب النظام السوري، ولبث الرعب بين المواطنين والتأثير عليهم نفسياً، وتكبيدهم خسائر بشرية ومادية تدفعهم كي يثوروا بوجه «حزب الله»، لأنه يتسبب لهم بذلك، لكن هذه التفجيرات جاءت نتيجتها عكسية، فهي زادت من إلتحام المواطنين بالمقاومة التي لولا قتالها التكفـيريين فـي سوريا وعند الحدود مع لبنان، لكان سقط فـي قبضتهم، وتحوّل الى «إمارة إسلامية» ملتحقة بـ«دولة الخلافة» التي أعلنها أبوبكر البغدادي ونصّب نفسه أميراً عليها، ودعا المسلمين الى مبايعته.
فالإرهاب غيّر من أسلوبه، فبعدما كان يعتمد على السيارات المفخخة لجأ الى «الإنتحاريين الإنغماسيين»، الذين يُحمّلون بالأحزمة الناسفة، لتفجيرها فـي التجمعات البشرية، وهو ما يحصل فـي أكثر من دولة، والذي اعتمده «داعش» فـي تفجيري برج البراجنة، فـي ظل الإجراءات الأمنية، مع كشف أجهزة الأمن الرسمية لعدد من الشبكات الإرهابية والخلايا النائمة، ولم يتأخّر أي جهاز فـي تحقيق إنجازات، من مخابرات الجيش الى فرع المعلومات فـي قوى الأمن الداخلي، والأمن العام وأمن الدولة، حيث تشترك هذه الأجهزة فـي غرفة عمليات لمجلس الأمن المركزي الذي يترأسه وزير الداخلية، حيث رفع الوزير نهاد المشنوق من درجة التنسيق فـيما بينها، وهو ما كان مدار شكوى عن عدم وجوده، حيث يطغى التنافس، ليقدم كل جهاز نفسه على أنه هو الذي يحقق إنجازات.
وتفجيرا الضاحية، كانا سيكونان أربعة، لو تمكّن إنتحاريان آخران من الوصول الى مستشفى الرسول الأعظم لتفجير نفسيهما، وهي المستشفى التي يُقال أن جرحى «حزب الله» من القتال فـي سوريا، يُنقلون إليها، إضافة الى الهدف أيضاً هو قتل أكبر عدد من المواطنين عند نقل ضحايا التفجيرين إليها، وهو ما يلجأ إليه الإرهابيون فـي أعمالهم الإجرامية، لكن لأسباب تقنية تعطّلت العملية، كما أن قيام الشاب عادل ترمس بإلقاء نفسه على أحد الإنتحاريين قرب المسجد فـي عين السكة فـي برج البراجنة، خفف من الخسائر البشرية، التي كانت الأعلى هذه المرة، لأن المنطقة شعبية وتكتظ بالسكان، وحصلت العملية فـي ذروة الإزدحام مساءً عند عودة الناس الى منازلهم.
لبنانيون يتفقدون موقع تفجيري برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية. |
أما ما الذي دفع بـ«داعش» للعودة الى التفجير وإرسال إنتحاريين، فإن السبب هو الخسائر التي يتكبدّها هذا التنظيم الإرهابي فـي سوريا كما فـي العراق، مع تراجعه أمام الجيش السوري والمقاومة على جبهات القتال وتحديداً فـي ريف حلب الجنوبي، وفك الحصار عن مطار «كويرس» العسكري، الذي دام حوالي العامين، وصمدت حاميته المؤلفة من حوالي 800 ضابط وعنصر، الى أن تمّ طرد المجموعات الإرهابية من محيطه والبلدات المجاورة له، والسيطرة على طريق حلب-دمشق، مع التقدم العسكري الذي أحرز، والذي يقطع التواصل بين إدلب وريفها وحلب، كما بين إدلب وحماه وحمص، وهذا ما أثار غضب «داعش» ومَن يدعمها، فتمّ تحريك شبكات وخلايا جرى تدريبها، وإرسالها الى لبنان إما عبر معابر شرعية عبر تهريب، حيث تبيّن أن هذا التنظيم له قواعده اللوجستية التي تتحرك فـي كل المناطق اللبنانية، وأن فـي عرسال مَن لازال يقدم العون للجماعات الإرهابية، إذ وقع فـي يد الأمن الرسمي اللبناني، عشرات الأفراد منهم، ليتبيّن أن بعضهم هو من عرسال المخطوفة من الإرهابيين وباتت تحت قبضتهم.
وهذا الرد الإنتحاري على الخسائر التي يتكبّدها الإرهابيون عزّز لدى «حزب الله» وجمهوره حتمية الإستمرار فـي الحرب ضد الإرهابيين، وهو ما أكّد عليه السيد حسن نصرالله، وما عبّر عنه أهالي الشهداء والجرحى والمتضررين من التفجيرين، بأن الرد يكون بالصمود بوجه التكفـيريين الذين واجهتهم فـي لبنان موجة من الإستنكار الوطني الجامع لكل القوى السياسية والحزبية ومن جميع الطوائف والمذاهب، وسقطت مقولات كانت تطرح، تحمّل «حزب الله» مسؤولية التفجيرات لأنها رد على تورطه فـي القتال بسوريا، ليتأكّد أن الإرهاب لا يضرب فـي لبنان فقط، بل فـي كل مكان فـي العالم، وهو سابق للأزمة فـي سوريا، لأنه استهدف أميركا فـي 11 أيلول 2001، كما خاض حرباً فـي روسيا وجمهورياتها، وفـي الجزائر، كما فـي شرق آسيا، وهو نابع من عقيدة دينية تستند الى تفسير وهابي لها، يكثر فـيها التكفـير وإلغاء الآخر، وهو ما دفع بمن يحارب الإرهاب، الى طرح موضوع اجتثاث هذا الفكر الذي نشأت له مدارس تعلمه ومساجد يقوم أئمتها بالترويج له، واعتبار المجتمعات جاهلية لأنها ابتعدت عن «حكم الله» وتطبيق شريعته، وكل مَن لا يلوذون الى الله وحكمه وشريعته، هم من الكفار من غير المسلمين، ويعتبرون مرتدين إذا كانوا مسلمين سنّة أو «روافض» إذا كانوا شيعة، وزنادقة إذا كانوا اسماعيلين وعلويين ودروز إلخ…
فهذا الفكر التكفـيري هو ما بدأ ينتشر فـي العالم، وهو الذي يخوض حربه لإرساء «الإسلام الحقيقي» كما يقول قادة تنظيم «القاعدة» الذي خلف وراءه مجموعات وتيارات ومنها «النصرة» و«داعش» و«بوكوحرام».
وما حصل فـي برج البراجنة من تفجير، كان الهدف منه هو افتعال فتنة بين أبناء المنطقة وهم فـي غالبيتهم من الطائفة الشيعية والمؤيدين لـ«حزب الله» وحركة «أمل» والمخيم فـي الجوار الذي يقع على حدود برج البراجنة ويسمى باسمها، وتعود العلاقات الجيدة بينه وبين جواره الى عقود، وكاد الإنفجاران أن يحركا مشاعر عنصرية ضد الفلسطينيين، بعد أن سرّبت «داعش» فـي بيان إعلان مسؤوليتها عن التفجيرين اسمي الإنتحاريين وهويتهما الفلسطينية ان يتسبب باشكالات أمنية إذ كاد الغضب على سقوط القتلى والجرحى ومشهد الدمار والخراب، أن يوقع صداماً لبنانياً-فلسطينياً، سيتّخذ طابعاً شيعياً-سنّيّاً، لكن تدخل قيادتي «أمل» و«حزب الله» والإتصالات واللقاءات السريعة التي حصلت مع المسؤولين فـي الفصائل الفلسطينية، والتي وصلت الى رام الله عبر الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) وغزة عبر رئيس الحكومة السابق اسماعيل هنية ورئيس حركة «حماس» خالد مشعل، حيث ثبت للجميع أن الإنتحاريين ليسا فلسطينيين، وهو ما لجم الغضب فـي برج البراجنة، قابله امتناع الفلسطينيين عن القيام بأي رد فعل، بعد محاولة قام بها مجهولون بإطلاق نار باتجاه المخيم، ساهمت شبكات التواصل الإجتماعي فـي تأجيج النار وتحريك الغرائز، بعد أن بدأ التداول عليها، أن إطلاق نار سُمع فـي الطريق الجديدة المحاذية للضاحية، ابتهاجاً بوقوع التفجيرين، وهذا كان كافـياً لحدوث إنفلات أمني، لولا تدخل الرئيس نبيه بري والسيد نصرالله، وإرسال قيادات من «أمل» و«حزب الله» الى الضاحية ومكان الجريمة لتهدئة النفوس، حيث مرّت المنطقة بـ«قطوع أمني»، إذ كان المخططون للتفجيرين، يهدفون الى إشعال «حرب مخيمات» جديدة، تمكّن القوى الإرهابية من الإمساك بالمخيمات، واستعادة مشهد معارك مخيم نهر البارد فـي العام 2007، الذي أفشل الجيش اللبناني محاولة شاكر العبسي المنتمي الى تنظيم «القاعدة» من إقامة «إمارة إسلامية» وهو إنتقل الى لبنان بأمر من الرجل الثاني فـي التنظيم أيمن الظواهري لتحويل «أرض لبنان» الى «أرض جهاد» لا «أرض نصرة»، لكن المخطط فشل، وحاول أبوبكر البغدادي الذي تسلّم التنظيم من «أبو مصعب الزرقاوي» فـي العراق، أن يعيد المشهد من جديد، ومن مخيم برج البراجنة الذي جاء إليه العبسي فـي صيف 2006، بعد أن أقنع مسؤولين فـي حركة «فتح – الإنتفاضة» أنه آتٍ لمساعدة المقاومة فـي صد العدوان الإسرائيلي، ليستولي على مكاتبها ويعلن «فتح – الإسلام»، الذي إندحر فـي نهر البارد، لكنه أسس قاعدة له فـي عين الحلوة، بالتنسيق مع مجموعات إسلامية متشددة كـ«جند الشام» و«عصبة الأنصار».
Leave a Reply