عماد مرمل – «صدى الوطن»
بعد انتظار ثقيل الوطأة، وممزوج بكل أنواع القهر.. وبعد حرب أعصاب خيضت على جبهات التفاوض خلال أشهر طويلة من الكر والفر.. عاد العسكريون الستة عشر الذين كانوا مختطفـين لدى جبهة النصرة الى ذويهم ودولتهم، ليطوى بذلك فصل من ملف المخطوفـين، من دون ان يُقفل الجرح نهائياً، مع استمرار تنظيم «داعش» فـي اختطاف تسعة جنود لبنانيين.
واستعادة الأسرى الى الحرية، تطلبت مظلة أقليمية امتدت من دمشق الى الدوحة، فـيما أعطى التواصل المباشر بين الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني قوة دفع للتفاوض الذي كان يقوده المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، من دون إغفال «التغطية السنية» التي أمّنها الرئيس سعد الحريري لمهمة ابراهيم فـي مواجهة رصاص «القنص المذهبي» الذي تعرضت له من قبل بعض المتخصصين فـي التحريض.
هو إنجاز متعدد الأبعاد والأضلاع، يُضاف الى سجل اللواء ابراهيم الذي استخدم كل فنون التفاوض وتكتيكاته لتحرير العسكريين بأقل «الخسائر الممكنة»، إذ أن الثمن الذي دفعه لبنان فـي مقابل استعادة المخطوفـين هو من النوع القابل للاحتمال، قياساً الى المطالب التعجيزية التي طرحتها جبهة النصرة خلال مراحل المفاوضات.
وكان لافتاً للإنتباه فـي هذا السياق أن المعتقلين والمعتقلات الذين خرجوا من السجون اللبنانية، بموجب صفقة التبادل، رفضوا الإلتحاق بـ«إمارة النصرة» فـي جرود عرسال والقلمون، واصروا على البقاء فـي الداخل اللبناني.
لقد أثبت ابراهيم الذي كان يحفر جبلاً بإبرة أنه رقم صعب فـي معادلة الامن اللبناني، وانه مفاوض محترف من الطراز الرفـيع، يشكل ضمانة للدولة اللبنانية، علماً أن هناك قوى سياسية داخلية حاولت، فـي البداية، الاعتراض على تكليفه بمتابعة ملف المخطوفـين، وسعت الى التشويش على عمله، تارة عبر محاولة مذهبة دوره، وطوراً عبر فتح خطوط جانبية مع الخاطفـين، بحيث أن مدير الامن العام اضطر لتحرير مهمته من مداخلات «الانتهازيين» قبل تحرير المخطوفـين.
ولئن كانت الساحة الداخلية تعاني من حالة انعدام وزن نتيجة الصراعات السياسية وشلل مؤسسات الدولة، إلا ان الإفراج عن العسكريين سمح باقتناص لحظات نادرة من الفرح الوطني المشترك، العابر للطوائف والزواريب، ومنح رئيس الحكومة تمام سلام جرعة من الانتعاش، فـي ظل تصحر حكومته المعطلة منذ أشهر، بفعل بطالة مستفحلة.
لكن النصف الممتلىء من كوب صفقة التبادل لم يتمكن من إخفاء النصف الفارغ الذي عكسه مشهد استباحة مقاتلي «النصرة»، لجزء من الجرود اللبنانية وصولا الى بلدة عرسال، مباشرة على الهواء، بعدما استفادوا من فرصة البث المباشر ليستعرضوا قوتهم ويوصلوا رسائلهم بـ«البريد السريع» العابر للأثير.
وإذا كان قد سبق لوزير الدخلية نهاد المشنوق ان أكد أن عرسال محتلة، فان اللبنانيين استطاعوا ان يشاهدوا هذا الاحتلال للبلدة وجرودها بـ«العين المجردة»، خلال التبادل. مقاتلون ملثمون ومدججون بالسلاح يملأون المكان، سيارات رباعية الدفع تزدحم بالارهابيين، دراجات نارية تروح وتجيء، تصريحات اعلامية، هتافات صاخبة، رايات سوداء، حتى تخال نفسك فـي ريف دمشق وليس فـي ريف عرسال..
ولعل أخطر ما فـي هذه الواقعة، أن «النصرة» حصلت على فرصة مجانية، بفعل بعض التغطية الاعلامية غير المدروسة، لإعادة انتاج هويتها وتلميع صورتها، بحيث حاولت ان توحي انها منظمة جهادية، تحمل قضية مشروعة وتسعى الى الحرية والعدالة.
والاسوأ، أن بعض المظاهر التي رافقت تسليم المخطوفـين صبت فـي خانة افتعال بُعد انساني لـ«النصرة» (وهي فرع «القاعدة» فـي بلاد الشام)، سواء من خلال التركيز على سؤال العسكريين وهم لا يزالون قيد الأسر حول المعاملة التي تلقوها، او من خلال تقديم مقاتلي النصرة بشكل «حضاري» يحتضنون الأطفال ويتصرفون بطريقة انسانية!
انها بكل بساطة عملية تزوير واحتيال موصوفة، ترمي الى «أنسنة» هذا التنظيم الارهابي وتطبيع العلاقة معه، بحيث يصبح مقبولاً لدى الرأي العام ومراكز القرار، سعياً الى حجز مقعد له فـي التسوية السياسية المفترضة للأزمة السورية، بمؤازرة من قوى إقليمية ومحلية تتولى «التبشير» بـ«النصرة».
وبهذا المعنى، لم تتردد بعض الأطراف الداخلية فـي البناء على لحظة إطلاق سراح العسكريين من أجل الترويج لـ«النصرة» باعتبارها جبهة معتدلة وغير ارهابية، فقط نكاية بالنظام السوري وكرها له، الامر الذي شكل استفزازا لشريحة واسعة من الشعب اللبناني، خصوصا لذوي الشهداء العسكريين الذين قتلتهم «النصرة»، بعد اختطافهم.
ليس مفهوماً كيف يمكن ان تكون جبهة النصرة معتدلة وهي ترسل الانتحاريين لتفجير أنفسهم بالمدنيين، وتختطف العسكريين وتقتل بعضهم ذبحاً أو إعداماً بالرصاص، وتحتل جزءاً من الاراضي اللبنانية، وترفض الرأي الآخر الى حد إلغائه.
وليس مفهوما كيف لجبهة بهذه المواصفات ان تكون شريكة فـي الحل السياسي للأزمة السورية أو بديلاً محتملاً عن النظام الحالي.
وليس مفهوماً كيف ان هناك لبنانيين تحولوا الى سفراء لـ«النصرة» وليس فقط وسطاء معها.
وليس مفهوما كيف يمكن لدولة ان تصبح قوية ومتماسكة إذا كان الانقسام بين مكوناتها يطال مفهوم الامن القومي وتعريف المخاطر، بحيث أن البعض فـي لبنان يقاتل «النصرة» ويقدم التضحيات فـي مواجهتها، بينما يسعى البعض الآخر الى تجميل صورتها والتسويق لـ«بضائعها».
إنه وطن المفارقات.. والافتراقات.
Leave a Reply