نبيل هيثم – «صدى الوطن»
ليست هذه المرّة الأولى التي يقتنص فـيها العدو الإسرائيلي الفرصة لتصفـية حساباته مع المقاومة. فـي مطلع العام الماضي، كانت الطائرات الإسرائيلية تستغل العد التنازلي للاتفاق النووي بين إيران والمجموعة الدولية لاغتيال مقاومي «حزب الله» فـي القنيطرة. وها هي إسرائيل اليوم تستغل مرحلة تحولات إقليمية من سوريا إلى العراق واليمن لما تعتقد انه إقفال حساب قديم-جديد يمتد من نهاريا إلى الجولان عبر اغتيال عميد الأسرى اللبنانيين فـي سجونها.
ليست مصادفة أن تأتي جريمة الاغتيال بعد أقل من يومين على توصل مجلس الأمن الدولي، وبإجماع نادر، إلى قرار بشأن سوريا، يأمل الكثيرون فـي أن يشكل خطوة راسخة على طريق الحل السياسي للصراع الذي يقترب من دخول عامه السادس، وبعد أسبوع، أو يزيد قليلاً، على إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية تبرئة ساحة البرنامج النووي الإيراني من الشبهة العسكرية.
كما أنها ليست مصادفة أن تأتي جريمة الاغتيال بعد أيام قليلة على تشكيل السعودية تحالفها الإسلامي -أو بالأصح السني- لحرب مزعومة ضد الإرهاب، فـي إطار سعي ملكها العجوز إلى تعزيز دور ابنه، ولي ولي العهد محمد بن سلمان، على الساحة الإقليمية والدولية، بعدما فشل فـي اختبار حرب اليمن، تلك الدولة الفقيرة التي صارت اليوم مصدر تهديد جدي للملكة القوية، فـي ظل التحدي الذي رفعه الحوثيون فـي وجه الجار الأقرب والأكبر، والذي ترجموه فـي الأيام القليلة الماضية بإطلاق صليات من الصواريخ فـي العمق السعودي، وسط حديث عن بنك أهداف يتضمن مئات المنشآت العسكرية السعودية.
كذلك، فإنها ليست مصادفة أن تختار القيادة السياسية-العسكرية الإسرائيلية اغتيال سمير القنطار مع بدء العد التنازلي القريب للساعة الصفر التي حددها الجيش العراقي وقوات «الحشد الشعبي» لتحرير مدينة الرمادي من قبضة تنظيم «داعش» الإرهابي، وأيضاً فـي ظل تحوّلات ميدانية ملفتة فـي الشمال السوري، دفعت برئيس الوزراء التركي احمد داود أوغلو إلى تهديد روسيا بتصعيد كبير فـي حال سمحت بخسارة المجموعات الإرهابية لمحافظة إدلب.
هكذا ارادت إسرائيل الدخول مباشرة على خط التحولات السياسية والميدانية، من خلال عملية عسكرية بدا الهدف منها إرباك المشهد الإقليمي فـي لحظات تحوّلاته المفصلية، تقترب معها ديبلوماسية «السوخوي» الروسية من تغيير قواعد اللعبة سياسياً وميدانياً.
فـي هذا الإطار، فإن اغتيال القنطار كان يستهدف فـي السياق الإقليمي إحراج روسيا التي تعمل جاهدة على فرض مظلة دفاعية جوية فـي سماء سوريا.
وما الانتقادات التي كالها الصديق والعدو لروسيا بسبب تنفـيذ الإسرائيليين جريمتهم الغادرة فـي جرمانا تحت مظلة الـ«أس 400» سوى انعكاس لما سعت إسرائيل إلى تحقيقه، عبر ضرب عصفورين بأربعة «صواريخ ذكية»، إن لجهة دق إسفـين بين روسيا ومحور المقاومة من جهة، أو لجهة تقزيم التدخل العسكري الروسي فـي سوريا، عبر إظهار عجزه عن حماية قيادي بارز فـي «حزب الله» كسمير القنطار.
ولا شك أن الإسرائيليين قد سعوا فـي هذا الإطار إلى تقديم أوراق اعتماد جديدة لحلفائهم التاريخيين، أي الولايات المتحدة وتركيا.
ولا بد هنا من التذكير بأن اغتيال سمير القنطار سبقه قبل أسبوعين قرار أميركي بإدراجه وقياديين آخرين فـي المقاومة الفلسطينية على لائحة الإرهاب.
ولا بد كذلك من التذكير بأن أحد هدفـي جريمة الاغتيال، فـي بعدها الإقليمي، وهو تقزيم الدور الروسي فـي سوريا، هو نفسه الهدف الذي أرادت تركيا تحقيقه حين قامت بإسقاط طائرة «السوخوي» عند الحدود التركية-السورية.
ولذلك، فإن من المستحيل تجاهل الترابط الزمني المثير للانتباه بين جريمة اغتيال القنطار والاتفاق المفاجئ بين إسرائيل وتركيا على تطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية، عبر تسوية ملف السفـينة «مافـي مرمرة»، فـي ما يمكن وصفه باللبنة الأولى لإعادة بناء تحالف ثلاثي سعت الولايات المتحدة لتكريسه منذ بداية التسعينات، على اقل تقدير، ويشمل تركيا وإسرائيل وإثيوبيا.
وأمّا التزامن المثير أيضاً للانتباه بين قرار تصفـية سمير القنطار وبين الإعلان السعودي عن تشكيل التحالف الإسلامي ضد الإرهاب، فلا يمكن أن يخرج عن سياق محاولات التقرّب أكثر من الخليجيين، أو على الأقل توجيه رسالة عسكرية مفادها «إننا فـي خندق واحد ضد إيران»!
وفـي هذا الإطار، كان ملفتاً للانتباه التعاطي العربي الخجول ( الى حد الصمت)، مع اغتيال القنطار برعم ما يمثله من رمزية حيال قضية فلسطين وكذلك فـي العمل المقاوم ضد اسرائيل. وايضا غياب أي موقف خليجي يدين عملية اغتيال القنطار، ، لا بل أن وسائل الإعلام الخليجية، وعلى اختلاف مشاربها، راحت تروّج لفكرة أن عميد الأسرى اللبنانيين فـي سجون الاحتلال قد اغتيل على خلفـية مشاركته فـي القتال ضد «الثوار» فـي سوريا، فـي ما لا يمكن وصفه سوى محاولة لتبرير جريمة الاغتيال.
ولعل المفارقة الكبرى هنا أن الإسرائيليين أنفسهم كانوا أكثر وضوحاً من العرب فـي التأكيد على أن اغتيال القنطار قد جاء على خلفـية ما يمثله من تهديد للدولة العبرية، وليس بسبب ما يقوله الخليجيون، ومن معهم، بأن الجريمة جاءت على خلفـية دوره فـي دعم نظام الرئيس بشار الأسد.
وكان ملفتاً أن الإسرائيليين قد ذهبوا أبعد بكثير فـي شرحهم لحيثيات استهداف سمير القنطار، ولا سيما معلّقيهم العسكريين والأمنيين -وهم بالمناسبة صدى المؤسستين العسكرية والأمنية فـي إسرائيل- إذ أشاروا إلى نقطة جوهرية غابت عن ذهن السعوديين وحلفائهم -أو على الأرجح تجاهلوها- وهي دور الشهيد القنطار فـي إعادة فتح جبهة الجولان للعمل العسكري المقاوم.
ولا بد هنا من الإشارة إلى ما كتبه المعلق الشهير فـي صحيفة «يديعوت أحرونوت» رون بن يشاي من أن ما ميز القنطار عن آخرين أنه ابن للطائفة الدرزية فـي لبنان، ولم يخمد نضاله ضد إسرائيل حتى بعد 30 عاما فـي السجن. وبحسب بن يشاي فإن دوافع القنطار المقاوم قادته إلى عرض خدماته على تنظيمات متعددة فـي فترات مختلفة من حياته وصولاً إلى محاولته إنشاء جبهة جديدة فـي الجولان ضد إسرائيل.
لا بل أن بن يشاي رأى أن «من المنطقي الافتراض أن استهداف القنطار ورفاقه لم يكن أساساً بسبب أفعال فـي ماضيهم، وإنما بسبب الضرر الكامن مستقبلاً فـي أعمالهم». ولتوضيح الفكرة أشار المعلق الإسرائيلي إلى أن «حزب الله» والإيرانيين يبحثون، منذ العام 2013، عن مسار عمل يردع إسرائيل عن ضرب قوافل التسليح من سوريا لبنان، وسعوا لأن يتمكن هذا المسار من تكبيد إسرائيل خسائر يدفع قيادتها إلى التفكير مرتين قبل أن تقصف قوافل السلاح، ولكن بشكل يحول دون تصعيد واسع على الجبهة السورية اللبنانية. وتقرر أن يكون هذا المسار فتح جبهة جديدة ضد إسرائيل فـي الجولان، وقد تم إرسال سمير القنطار لترؤس هذا المسار.
وخلص إلى أن إسرائيل الساعية إلى خلق مناخ ودود نسبيا لها فـي تلك المنطقة وجدت أن سمير القنطار بأفعاله ألحق ضرراً استراتيجيا بها، وذلك بتخريبه العلاقات بينها وبين الطائفة الدرزية سواء فـي سوريا أو لبنان.
هكذا يبدو واضحاً أن اغتيال سمير القنطار قد وقع فـي ذروة تعقيدات المشهد السوري، والتقاء الاضدادات الاقليمية والدولية وتصارعها.
ومن المؤكد أن عملية الرد المرتقبة من قبل المقاومة اللبنانية ستأخذ فـي الحسبان إفشال كل الأهداف التي سعى العدو الاسرائيلي الى تحقيقها.
ولعلّ الرد الأول على الجريمة قد بدأ فعلاً، حين نجح الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، فـي أول خطاباته بعد الاغتيال، فـي تجنب الفخ السياسي الأول المنصوب لمحور المقاومة، والمقصود به تحميل روسيا مسؤولية تغطية الهجوم الصاروخي فـي جرمانا.
وبدا واضحاً فـي اليوم الثالث بعد جريمة الاغتيال أن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو قد استشعر فشل هدفه هذا، فبادر الى الاتصال بالرئيس فلاديمير بوتين. ومن المؤكد، أن نتنياهو قد سمع من بوتين كلاماً لا يعجبه عن الجريمة، وهو ما المح اليه بعض المعلقين الروس.
وفـي العموم، فإن الرد على اغتيال القنطار لا يمكن ان يكون سوى رد استراتيجي، يتجاوز تنفـيذ عملية عسكرية ضد اسرائيل هنا او هناك، فالحياة النضالية لسمير القنطار تقاطعت فـيها جبهات عدّة، من لبنان والجولان… وصولاً الى فلسطين. ومن المؤكد ان الرد سيكون على هذا المستوى. تبعا لذلك، وبعد تأكيد السيد حسن نصرالله حتمية الرد، صار المستوى السياسي والاعلامي الاسرائيلي يتحرك على وقع القلق، بعض المعلقين اكدوا «أن اسرائيل ارتكبت خطأ كبيراً»، وذهب آخرون الى القول «على الاسرائيليين ان يتوقعوا الرد اعتبارا من الليلة».
واللافت للانتباه ان وسائل الإعلام العبرية تحولت بعد خطاب نصرالله ليل الاثنين الماضي الى أشبه ما يكون بوكالات انباء، تنقل ما يرد على لسان نصر الله تباعاً، وبلا تعليقات. ولفت أيضاً استنفار اعلامي، عبر بثّ مقتطفات متلاحقة من الكلمة مع اختيار مقاطع تتحدث عن مسؤولية اسرائيل عن الاغتيال وتبنّي القنطار والتشديد على انه احد كوادر الحزب، وبطبيعة الحال إن الرد آت. علماً أن اسرائيل واصلت صمتها الرسمي تجاه اغتيال القنطار، ولم يصدر عن اي مسؤول موقف يتبنى الاعتداء.
ولقد سعى المستوى السياسي والعسكري الى طمأنة المستوطنين والقول ان الرد إن حصل فقد لا يكون واسعاً، إلا ان هذا السعي لم يجد نفعاً لدى المستوطنين القلقين. اذ اعلنت مستوطنات عدة فـي شمال فلسطين المحتلة فتح الملاجئ استعداداً للأسوأ، كما فـي مستوطنتي شلومي ونهاريا اللتين بادرتا الى اعلان الاستنفار، رغم تعليمات الجبهة الداخلية التابعة للجيش الاسرائيلي بضرورة ممارسة الحياة الطبيعية فـي المستوطنات الشمالية. وكشفت القناة الثانية العبرية ان «التوتر هو سيد الموقف»، وتحديداً فـي مستوطنات اصبع الجليل وكريات شمونة، لافتة الى ان «الجيش الاسرائيلي جاهز لمواجهة اي تطور»، وقد نشر احترازياً منظومة القبة الحديدية شمالاً.
وحول مسؤولية اسرائيل عن اغتيال القنطار، اشارت القناة الاولى فـي التلفزيون الاسرائيلي، الى أن اسرائيل تعمد الى عدم الاعتراف بهذا النوع من العمليات، كما انها لا تنفـيه. وأضافت: «سياسة اسرائيل منذ حكومة (رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين) نتنياهو الأولى والثانية، تقوم على الضبابية. لكن من قام بهذا العمل هو بالتأكيد ليس سلاح الجو التابع لدولة زيمبابوي»!
Leave a Reply