كمال ذبيان – «صدى الوطن»
بعد غياب عن لبنان، يعتبره هو «قسرياً»، ولأسباب أمنية، عاد الرئيس سعد الحريري إلى وطنه الثاني مؤكداً أنه باقٍ لمواكبة استحقاق رئاسة الجمهورية، وإنجاح مبادرته التي أطلقها بدعم ترشيح النائب سليمان فرنجية للرئاسة الأولى، وأعلن أنه ملتزم بما تفاهم عليه معه فـي لقائهما فـي باريس، وهو إعلان رسمي عن ترشيحه له.
خمس سنوات قضاها رئيس «تيار المستقبل» فـي الخارج، حطّ خلالها مرتين فـي لبنان، إحداهما عندما حمل معه «المكرمة السعودية» بمبلغ مليار دولار إضافـي على ثلاثة مليار دولار التي تبرّعت بها المملكة لتسليح الجيش والقوى الأمنية. وقد زار الحريري بيروت فـي آب من العام 2014 بعد أحداث عرسال واستشهاد ضباط وجنود من الجيش اللبناني فـي هجمات غادرة للجماعات الإرهابية التكفـيرية من تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة».
غادر الحريري حينها ليعود الأحد الماضي فـي الذكرى الحادية عشر لإغتيال والده الرئيس رفـيق الحريري لإلقاء كلمته السنوية المعتادة فـي هذه المناسبة مباشرة بحضوره شخصياً الذي كان مفاجئاً، كما حضور حليفه رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي كان مفاجأة أيضاً، ليسمع من الحريري نقداً لاذعاً على المصالحة المتأخرة بينه وبين العماد ميشال عون والذي كلّف صراعهما الدموي آلاف القتلى والجرحى والدمار، جلّهم من المسيحيين، الذين خيضت «حرب الإلغاء» على أرضهم وبلداتهم ومدنهم وبين منازلهم، فلو حصلت المصالحة لكانت وفّرت على المسيحيين واللبنانيين الأثمان الغالية التي دفعوها، كما قال الحريري لجعجع.
أفضال سعد
وبكثير من الغضب الذي يعتمر صدر الحريري فجّر «زعيم المستقبل» كلامه الذي خرج فـيه عن النص المكتوب، ليعبّر عن نقمة على حليفه الذي له عليه الكثير من الأفضال، فهو ساهم فـي العفو عنه وإطلاق سراحه من السجن الذي كان يقضي فـيه حكم المؤبّد الذي استبدل عن الإعدام بجرائم قتل إرتكبها جعجع بحق الرئيس رشيد كرامي باغتياله بعبوة تمّ تفجيرها فـي أثناء انتقاله بطوافة عسكرية تابعة للجيش اللبناني، فقضى وهو رئيس حكومة لبنان، والذي كان يسعى الى توافقات داخلية، لكن «القوات اللبنانية» التي اختطفها جعجع من إيلي حبيقة وترأسها، كانت ضد الوفاق الداخلي، فتخلّصت من كرامي باغتياله، كما أسندت الى جعجع عملية اغتيال كل من داني شمعون نجل الرئيس كميل شمعون، وقد اغتيل فـي تشرين الأول من عام 1990، وهو كان مقرّباً من العماد ميشال عون، وكذلك صدرت أحكام قضائية بحق جعجع فـي محاولات اغتيال إيلي حبيقة والنائب ميشال المر، وغيرها من الجرائم.
ولم يكتفِ الحريري بإصدار العفو عن جعجع من مجلس النواب، بل فتح الطريق له الى البيئة السنّيّة، وأرغمها على القبول به، وهو قاتل الرئيس كرامي، دون أن ينسى المواطنون ماذا حلّ ببيروت بعد دخول قوات الإحتلال الإسرائيلي إليها فـي أثناء الإجتياح صيف 1982، إذ ارتكبت «القوات اللبنانية» مجزرة صبرا وشاتيلا، واختطاف حوالي ألفـي مواطن من منازلهم وعلى حواجزها، لم يظهر لهم أثر بعد أكثر من ثلاثين عاماً، ففرض الحريري على «أهل السّنّة» أن يزور جعجع المفتي الشيخ محمد رشيد قباني، وأدخله الى المناطق ذات الكثافة السّنّية، وأمّن له «كتلة نيابية وازنة» فاز أعضاؤها بأصوات السّنّة سواء فـي زحلة او الشوف أو الشمال.
القفز عن سعد
فما قدّمه الحريري لجعجع، لم يقابله بالوفاء، وفق ما يدور داخل «تيار المستقبل»، إذ بات يغرّد لوحده، وقد إنفرط عقد قوى «14 آذار»، التي انسحب منها عون عام 2005، ثم النائب وليد جنبلاط فـي العام 2009، ولم يبقَ فـيها سوى «القوات اللبنانية» و«المستقبل» وقد فرقتهما سياسياً رئاسة الجمهورية، بتأييد كل طرف منهما لمرشح من «8 آذار»، ثمّ فـي عدم مشاركة القوات فـي الحكومة الحالية برئاسة تمام سلام، لا بل كانت تتطلع الى علاقة مباشرة مع السعودية دون المرور بالحريري، وهذا ما حصل، إذ زارها جعجع، واستُقبل بحفاوة بالغة من قبل الملك سلمان بن عبد العزيز، فأعطاه زخماً معنوياً إضافة الى الإستفادة المالية، وهو ما أشعر جعجع، بأنه رقم صعب فـي المعادلة اللبنانية، ولا يمكن شطبه.
هذه الدفعة المعنوية لرئيس «القوات اللبنانية» أزعجت الحريري الذي فتح الطريق له الى السعودية، فبات يذهب إليها دون المرور به، كما يجرى التداول به داخل «المستقبل»، أن المساعدات المالية من المملكة تأتي مباشرة الى رئيس «القوات»، ولا ممر غيرها، وهو ما ترك إنزعاجاً عند رئيس «تيار المستقبل» الذي أقلقه ما جرى، وظنّ أن إنقلاباً حصل ضده داخل العائلة الحاكمة، التي تمر علاقة بعض أمرائها بفتور مع الحريري الذي انتهز مناسبة 14 شباط، «ليفش خلقه» بجعجع وقد تراكمت السلبيات بينهما، والعلاقات الجافة، بالرغم من أن «14 آذار» مازالت تجمعهما، لكنها فقدت تأثيرها، كما لم تعد موحدة على هدف سياسي، بل تمر بحالة من التناقضات، وتبدل التحالفات، وتغيير المسارات، وهذا ما أثّر سلبياً على جمهور «14 آذار»، الذي تردّد قياداته، أنه باقٍ على خط السيادة والإستقلال، وهو الحالة التي أسّست لـ«ثورة الأرز»، وهو كلام إنشائي لا يفـيد هذا الجمهور الذي يعاني مثله مثل كل اللبنانيين من أزمة نفايات الى إرتفاع نسبة البطالة وغياب فرص العمل، وازدياد الفقراء الذين وصلت نسبتهم الى 41 بالمئة، إضافة الى أزمات الخدمات كالمياه والكهرباء والصحة والتعليم والسكن.
نهاية «14 آذار»
حضر الحريري الى بيروت وفجّر 14 آذار، بالرغم من دعوته قادتها الى إلتقاط الصورة الجماعية، والتي لم ترمم حالة عدم الثقة بين أطرافها، التي لكل منها مشروعه الخاص، والدليل أن حزب الكتائب لا يقبل بإنتخاب مرشح من «8 آذار»، ومثله رئيس حزب الوطنيين الأحرار دوري شمعون، ومسيحيين مستقلين، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على قانون الإنتخاب، وعلى معالجة قضايا خدماتية وإنمائية، إضافة الى الوجود المسيحي فـي مؤسسات الدولة.
فما كان يجمع «14 آذار»، وهو عناوين السيادة والإستقلال وبناء الدولة، هي شعارات لا قيمة فعلية لها، ولا احترام لمضمونها، ولا تطبيق لها، وبات كل طرف فـيها يفتش عن مصالحه السياسية الفئوية، فـيؤيّد الحريري النائب فرنجية لرئاسة الجمهورية، لأنه يضمن أنه لن يمس بإتفاق الطائف ودستوره، والذي أعطى السّنّة الكثير من الصلاحيات فـي رئاسة الحكومة التي أحاطها بعدد كبير من المؤسسات يصل الى حوالي 70 مؤسسة وإدارة تابعة لرئاسة الحكومة، وهي إدارات موازية للوزارات، التي يأخذ منها مهامها، ومن الحكومة دورها كسلطة تنفـيذية جامعة لكل المؤسسات.
فعودة «الإبن الضال» الى بيت الوسط حيث يقيم، والذي يبعده عن مقر رئاسة الحكومة بضعة أمتار، سيحاول الحريري الإمساك بالوضع السياسي، وهو فـي كلمته بذكرى 14 شباط، تحدّث من موقع الواثق بأن مشروع محوره الإقليمي سيربح، وشنّ هجوماً على إيران وأطماعها فـي العالم العربي، ولم يوفّر «حزب الله» الذي يحاوره تياره السياسي، وهو أمر مفـيد للإستقرار فـي لبنان، فـي ظل إشتعال الحروب فـي أكثر من دولة عربية، وقصْد الحريري من توجيه سهام الإنتقاد والهجوم، هو للتأكيد أنه فـي لبنان يمثل السعودية ونهجها السياسي فـي مواجهة «الفرسنة» التي تطيح بـ«العروبة» كما قال الحريري، وهو لا يؤسس فـي مواقفه لصياغة مشروع لبناني، بل ربطه بمحاور خارجية، كانت تؤجج الصراع الداخلي، وتفتح أبواب الإقتتال بين اللبنانيين.
فالحريري فـي بيروت لأيام أو لأسابيع أو أشهر وربما سنوات، لا أحد يعرف، لكن ما يُعرف أنه إذا توفق فـي إجراء إنتخاب رئيس للجمهورية، وكان الحظ لصالح مرشحه فرنجية، فإن رئاسة الحكومة تعود له، بعد أن أعارها للرئيس تمام سلام، بعد إستردادها من الرئيس نجيب ميقاتي الذي إنقلب عليه، حيث ينتظر رئيس «تيار المستقبل» بفارغ الصبر إنتهاء الفراغ فـي رئاسة الجمهورية ليملأ هو رئاسة الحكومة التي بحاجة إليها، والذي لم يكن حظه كحظ والده أنه أمضى ست سنوات متتالية فـي السراي، فـي حين أنه هو لم يجلس على كرسي الرئاسة الثالثة سوى عام وأشهر قليلة، فأطيح بحكومته، وبالمصالحة السعودية-السورية (س-س)، لتسقط الحكومة، ويخرج فريق «14 آذار» من الحكم الذي تقاسمه فريق «8 آذار» مع القوى الوسطية الممثلة بالرئيس ميقاتي وحلفائه والنائب جنبلاط.
ورئاسة الجمهورية التي يبلغ الشغور فـيها عامه الثاني، هي فـي مرحلة الإنتظار كما يقول الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، وفـي الثلاجة كما يؤكّد الرئيس برّي، وهي مرتبطة بالتطورات الدولية والإقليمية كما يشير النائب جنبلاط ويوافقه الرأي العماد عون وقيادات سياسية أخرى، حيث كل ما يفعله القادة السياسيون، هو التريث فـي هذه المرحلة، لكن لتقطيع الوقت لا بدّ من تمرير المناكفات والكيديات لبعضهم البعض، ومحاولة إظهار القوة، والإدّعاء بصناعة رئيس الجمهورية.
Leave a Reply