كمال ذبيان – «صدى الوطن»
عرف تاريخ لبنان الحديث، لاسيما مرحلة ما بعد نشوئه قبل قرن من الزمن، صراع المحاور عليه، أو ما سُمي صراع الآخرين على أرضه، كما كان يقول الصحافـي والسياسي الراحل غسان تويني، والذي كان اللبنانيون يتأثرون بهذا الصراع، وينحازون الى هذا المحور الدولي أو الإقليمي وذاك، وكانت الطوائف والمذاهب تستظل حماية دول، وقد شهد لبنان ذلك بعد أحداث 1860 الطائفـية التي وقعت بين الدروز والموارنة خصوصاً والمسيحيين عموماً فـي جبل لبنان ومناطق نفوذ وجود الطائفتين، حيث ارتكبت المجازر بينهما، وتدخلت الدول لوقفها، وصدر «بروتوكول» عنها، وتولّت كل دولة من الدول السبع حماية طائفة، وأرسلت قناصلها لرعاية الإتفاق، ومنذ ذلك الوقت، واللبنانيون يتطلعون دائماً الى حمايات خارجية، والى ارتباط مصالح زعماء الطوائف بهذه الدولة أو تلك، وما يمثل هؤلاء من تأمين لمصالح هذه الدولة أو تلك، وربط قرار لبنان بالمشاريع الخارجية.
فما بعد زوال السلطنة العثمانية وخسارتها الحرب العالمية الاولى امام الحلفاء عام 1916، وتقاسم أراضيها، كان المشرق العربي من حصة الإستعمارين الفرنسي والبريطاني، ووقع لبنان تحت الإنتداب الفرنسي، الذي كان زعماء الطوائف يتنازعون على كسب ود المفوّض الفرنسي، ثم بعد الحرب العالمية الثانية، توزعوا الولاء بين البريطانيين (الإنكليز) والفرنسيين، ونشأت كتلتان نيابيتان إنبثقتا عن حزب الكتلة الوطنية برئاسة إميل إده الموالي لفرنسا والحزب الدستوري برئاسة بشارة الخوري الموالي لبريطانيا، وشهد لبنان صراعاً داخلياً بين هذين المحورين، ظهر فـي الإنتخابات النيابية ثم الرئاسية، وتمكّن المندوب البريطاني الجنرال سبيرز من انتزاع رئاسة الجمهورية من الفرنسيين لصالح بشارة الخوري، بعد أن كانت مع إده.
محاور
ولم يتوقف صراع المحاور، وتوزع القيادات اللبنانية عليها، بل إستمر ما بعد الإستقلال وانتهاء عهد بشارة الخوري، الذي أنتخب مكانه، بعد عصيان مدني ضدّه، الرئيس كميل شمعون الذي دعمه محور بريطاني-سوري (عهد الرئيس أديب الشيشكلي فـي العام 1952)، ومن ثم انخرط شمعون وربط لبنان فـي «مشروع إيزنهاور الأميركي»، و«حلف بغداد» المكوّن من العراق وتركيا وإيران، بمواجهة المد الناصري والشيوعي فـي منتصف خمسينات القرن الماضي، لينفجر بعد ذلك صراعاً بين محورين على أرض لبنان، بين «مشروع غربي» برئاسة أميركا إنحاز إليه رئيس الجمهورية شمعون، بمواجهة «مشروع عربي» مثّله الرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي أقام وحدة مع سوريا، وناصره زعماء لبنانيون منهم صائب سلام وكمال جنبلاط وصبري حمادة وحميد فرنجية، وأدّى صراع المحاور الى حصول أزمة داخلية بعد طرح شمعون التجديد له فـي رئاسة الجمهورية مع انتهاء ولايته عام 1958، فإندلعت حرب داخلية بين اللبنانيين، من ضمن صراع المحاور، الذي لم يتوقف مع الرئيس فؤاد شهاب وسلفه الرئيس شارل حلو، حيث ظهرت الحرب الباردة بين القطبين الدوليين أميركا والإتحاد السوفـياتي، وقد انعكست على لبنان الذي كان بدأ يشهد صعوداً لليسار المدعوم من الحركة الشيوعية العالمية، وأثّرت فـي حركات التحرر فـي العالم، ونتج عن ذلك أنه بعد نكسة حرب حزيران 1967 وهزيمة الجيوش العربية أمام العدو الإسرائيلي، تحولت الأرض اللبنانية الى قاعدة للكفاح المسلح الفلسطيني، ودارت مواجهة بين محور مؤيد له تمثله الأحزاب الوطنية والتقدمية وقوى وشخصيات إسلامية، ويعارضه اليمين اللبناني ممثلاً بأحزاب الكتائب والأحرار والكتلة الوطنية مدعومين من السلطة اللبنانية التي كانت بيد المارونية السياسية، فرأى المسلمون فرصة لهم فـي هذا الصراع لتحسين مشاركتهم فـي النظام السياسي، وإدارة السلطة، وكان وراء كل فريق محور إقليمي ودولي، حيث دعمت دول عربية ذات أنظمة قومية أو تقدمية الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية ويساندها الاتحاد السوفـياتي ومنظومته الإشتراكية، فـي مقابل دول عربية كانت تُعرف بالرجعية وفـي مقدمها دول خليجية وعلى رأسها السعودية التي كانت تناصب العداء للرئيس عبدالناصر، وتخشى من تمدد اليسار الصاعد دولياً وعربياً نحوها، فقررت دعم قوى وشخصيات لبنانية، هي على خصومة مع القوى القومية والناصرية واليسارية.
وهكذا عاش لبنان فترة حرب آخرين على أرضه وبواسطة أبنائه، بدأت عام 1969 من خلال مناوشات وتوترات وصدامات، لتتفجر فـي نيسان 1975، وغذتها قوى ودول خارجية، بدعم أطراف لبنانية، الى أن صدر القرار الدولي-الإقليمي بوقف الحرب فـي لبنان التي دامت عقداً ونصف العقد، بعد أن بطُلت ساحته أرضاً صالحة لصراع آخرين عليه، وانتقلت الى دول أخرى، كانت بدايتها مع غزو العراق برئاسة صدام حسين للكويت، حيث دخل العالم العربي منذ ذلك الحين فـي صراعات وحروب لم تتوقف، فبدأت فـي حرب الخليج الأولى والثانية، والحرب فـي السودان والجزائر، ورافق ذلك إنهيار الإتحاد السوفـياتي ومنظومته الإشتراكية، ودخل العالم فـي نظام الأحادية القطبية برئاسة أميركا التي هزتها أحداث 11 أيلول عام 2001 بسقوط برجي نيويورك، فكانت حرب العراق 2003 بعد الحرب على أفغانستان، تحت عنوان «الحرب على الإرهاب».
زمن الفوضى الخلاقة
هذه الحرب على الإرهاب فتحت العالم أمام فوضى وحروب، كان لبنان يتوجس منها، وهو المنتصر على إسرائيل بطرد قواتها من جنوبه فـي 25 أيار عام 2000، من أن تعود ساحته للتفجير، فحصل اغتيال الرئيس رفـيق الحريري فـي 14 شباط 2005، مع طرح الرئيس جورج بوش الإبن، لمشروعه «الشرق الأوسط الكبير»، الذي يلتقي مع مشروع «المشروع الأوسط الجديد» لرئيس وزراء العدو السابق شيمون بيريز، ولا ينجح هذا المشروع إلا بنشر «الفوضى الخلاقة» واشعال الحروب، فكانت الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف 2006، والتي تمكنت المقاومة من إلحاق الهزيمة بالجيش الإسرائيلي وإفشال المشروع الأميركي للشرق الأوسط الذي تمّ التعبير عنه عبر ما سُمي «ثورات عربية» أو «ربيع عربي»، لتغيير ديمقراطي، فكان أن حلّت حروب وفوضى مستمرة فـي سوريا والعراق واليمن وليبيا، وتتمدد أحياناً الى مصر وتونس ولبنان الذي يعيش منذ أكثر من عشر سنوات «حرباً أهلية باردة»، تسبّبت بها مشاريع خارجية، تقوم على إنهاء المقاومة فـي لبنان ونزع سلاحها.
فالصراع على المقاومة، هو ما يعمل عليه العدو الصهيوني، وهو ظهر أول ما ظهر بعد تحرير الجنوب فـي العام 2000، عندما طرح النائب وليد جنبلاط شعاره «لبنان هانوي أو هونغ كونغ»، حيث قام مَن يدعم هذا الشعار أميركياً وعربياً، مع الإنقسام العربي حول التسوية السلمية للمسألة الفلسطينية التي كان يمهّد لتصفـيتها مع «مؤتمر مدريد للسلام»، وبعد الدخول الأميركي الى العراق فـي العام 1990، الإ أن لبنان المقاوم رفض الإنخراط فـي التسوية، ونجح كأول دولة عربية فـي تحرير أرضه المحتلة بالمقاومة وليس بالمساومة، حيث كان القرار الأميركي-الإسرائيلي بتصفـية المقاومة، من بوابة قرار مجلس الأمن الدولي 1559، الذي كان صدوره لإشعال فتنة فـي لبنان، بإخراج الجيش السوري الذي شكّل سنداً للمقاومة وضبط الساحة اللبنانية لصالحها بمنع اختراقها أمنياً، وعندما إنسحب الجيش السوري بعد صدور القرار الدولي، تحولت السهام الى وجود سلاح للمقاومة، وعلى أنه يخدم المشروع الإيراني فـي المنطقة، وهو ما أدّى الى إنقسام اللبنانيين بين محورين الأول مقاوم ويضم المقاومة فـي لبنان وحلفائها مدعومة من سوريا وإيران، فـي مواجهة مَن يريد نزع سلاح المقاومة، أو تسليمه للدولة، وكشف لبنان أمام العدو الإسرائيلي، وربط لبنان بمحور أميركي-غربي-سعودي، ومثلته قوى «14 آذار»، حيث يدور صراع بين المحورين، فعرف توتراً وصدامات عسكرية، كان أبرزها ما حصل ما بين العامين 2007 و2008، والتي توقفت عام 2009، بعد المصالحة السورية-السعودية، لينفجر الصراع الداخلي سياسيا ودمويا لا سيما فـي طرابلس، مع إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري فـي مطلع عام 2011، ليخلفه الرئيس نجيب ميقاتي فـي رئاسة الحكومة، الذي استقال ليحل مكانه تمام سلام.
ولم يتمكن سلام من تشكيل حكومته الحالية إلا بعد قبول السعودية بمشاركة «حزب الله» فـيها الذي بدأ يقاتل الى جانب النظام السوري، حيث وافق الحريري على تمثيله فـي الحكومة تحت مسمى «ربط نزاع» معه، لكن هذا الربط كان يُفك فـي أكثر من أزمة خارجية، كان الأطراف الداخليون يتأثرون بها، وينحازون الى هذا المحور أو ذاك، كما فـي أزمة اليمن بعد الأزمة السورية، إذ وقف «حزب الله» ضد الحرب السعودية على اليمن، فـيما أيّدها «تيار المستقبل»، لكن صراع المحاور، لم يُسقط الحكومة التي أوقفت السعودية دعمها تسليح الجيش والقوى الأمنية بسحب الهبة التي قدمتها وقيمتها أربعة مليار دولار، وهدّدت بإتخاذ إجراءات ضد لبنانيين عاملين لديها وفـي دول خليجية، وهو ما حصل بطرد عشرات العاملين فـي بعض الدول الخليجية، وهذا ما سيؤدي الى تأزيم العلاقات بين لبنان وهذه الدول، مما دفع بالحكومة أن تجتمع برئاسة تمام سلام، وتصدر بياناً يؤيّد وقوف لبنان مع الإجماع العربي، لكن الأزمة لم تنتهِ، لأن الصراع السعودي-الإيراني يتصاعد فـي أكثر من ساحة، وبدأ لبنان يتأثّر به، وهو ما يمنع أيضاً إنتخاب رئيس للجمهورية، وهذا ما كشف عنه الرئيس نبيه برّي، عندما أعلن أن أزمة لبنان مرتبطة بأزمات المنطقة، وأن التوافق السعودي-الإيراني مدخل لحل أزمات لبنان، ووقف التوتر فـي المنطقة التي يتأثّر اللبنانيون بما يجري حولهم، وأن الدعوات الدائمة الى الحياد، أو عدم الإنحياز، أو «النأي بالنفس»، أو رفض الإنخراط فـي المحاور، لم تمنع من أن يكونوا كما فـي السابق دائماً وقوداً لصراع المحاور.
Leave a Reply