نبيل هيثم – «صدى الوطن»
يوم رفعت العقوبات الدولية عن إيران، بعد تأكد المجتمع الدولي، عبر اداته الرقابية المتمثلة بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، من التزام الجمهورية الاسلامية بتعهداتها الخاصة باتفاق فـيينا، كان الانطباع العام، وتحديداً لدى الغربيين، أن الولايات المتحدة قادرة على أن تأخذ فـي مرحلة «السلام النووي» ما لم تستطع أن تأخذه عبر العقوبات والحصار.
كان الرهان الغربي، وتحديداً الاميركي، أن مرحلة «السلام النووي» ستفتح آفاقاً جديدة لاختراق إيران من الداخل، من خلال ديبلوماسية ناعمة تلعب على وتر التباينات الداخلية، ولا سيما الاصطفاف المعروف بين الاصلاحيين والمحافظين.
وثمة من يرى أن من بين الاهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة من خلال التسوية النووية، هو إحداث خرق فـي جدار التضامن الداخلي الإيراني، الملتف حول ثوابت راسخة لم تستطع سنوات الحصار الطويلة أن تليّنها، والعمل، بأدوات مختلفة على تأجيج الاصطفاف الداخلي، بما يضعف الجبهة الداخلية للجمهورية الاسلامية.
انطلاقاً من ذلك، كانت أنظار خصوم إيران وأصدقائها على حد سواء متجهة الى ما ستحمله اول انتخابات داخلية بعد الاتفاق النووي، وهو اقتراع مزدوج، جرى الاسبوع الماضي، لاختيار أعضاء مجلس الشورى الاسلامي، الذي يمثل السلطة التشريعية فـي البلاد، ومجلس الخبراء، الذي يضطلع بدور جوهري فـي النظام السياسي لكونه المؤسسة الوطنية التي تختار المرشد الأعلى.
نتيجة الانتخابات المزدوجة تلك بدت معبّرة، فهي كرّست من الناحية العملية اعادة التوازن بين القوى السياسية، من دون أن تسمح للاصلاحيين والمعتدلين حلفاء الرئيس حسن روحاني من الحصول على الغالبية المنشودة لمواصلة سياسة الانفتاح، ومن دون أن تسمح كذلك للمحافظين من الحصول على غالبية اخرى من شأنها فـي مرحلة من المراحل ان تعيد عقارب مرحلة «السلام النووي» الى ما قبل اتفاق فـيينا.
ولا بد من التذكير هنا بأن، فـي جمهورية إيران الإسلامية مؤسسات وشخصيات يعيّنهم المرشد الاعلى مباشرة، لكن مجلس الشورى ومجلس الخبراء الذي يختار المرشد ينتخبان مباشرة من الشعب. ويتم تجديد مجلس الشورى المؤلف من 290 نائباً كل أربع سنوات، ومجلس الخبراء الذي يضم 88 عضوا كل ثماني سنوات، وهذه السنة تزامن الاقتراعان.
واذا كان مجلس الشورى، أي البرلمان، يعد من المؤسسات المهمة فـي إيران لضبط اداء السلطة التنفـيذية، ما يجعل دوره محورياً فـي إنجاح أو إفشال سياسات الرئيس حسن روحاني، فإن مجلس الخبراء، وفـي هذه اللحظة الفارقة فـي تاريخ الجمهورية الاسلامية، يكتسب أهمية أكبر، خصوصاً انه سيلعب دوراً جوهرياً فـي السنوات الثماني المقبلة بسبب سن المرشد الحالي آية الله علي خامنئي (76 عاماً) الذي يعتبر أعلى سلطة فـي إيران ويقرر المحاور الكبرى فـي السياسة الداخلية والدولية. ومن هنا أهمية أعضائه المنتخبين هذه السنة.
خريطة القوى السياسية
ولفهم حقيقة ما حملته الانتخابات الأخيرة، لا بد من التوقف، ولو بشكل بانورامي عام على خريطة القوى السياسية فـي إيران. وهناك تقليدياً -أو على الاقل منذ عشرين عاماً- تياران سياسيان كبيران فـي الجمهورية الإسلامية، وهما الإصلاحيون والمحافظون، وقد أضيف اليهما مؤخراً المعتدلون بزعامة حسن روحاني الذين يستمدون اسمهم من اسم «حزب الاعتدال والتنمية»، وهؤلاء المعتدلون المؤيدون لروحاني والرئيس الاسبق اكبر هاشمي رفسنجاني متحالفون مع الاصلاحيين.
أما المحافظون فهم لا يشكلون تكتلا واحداً، فهناك تياران رئيسيان، يتمثلان فـي الراديكاليين أو المحافظين المتشددين والمعتدلين المتميزين عن المعتدلين المؤيدين لروحاني. ويمكن أن يدعم المحافظون المعتدلون سياسة الحكومة الإيرانية برئاسة روحاني. وهذا ما حصل بالنسبة للاتفاق النووي بين إيران والقوى العظمى الذي انتقده فـي المقابل المحافظون المتشددون.
ولعل توزيع القوى، بحسب ما تبدّى بعد الانتخابات الاخيرة، يعكس بشكل واضح، أن الجمهورية الإسلامية تسير وفق توازن دقيق يتماهى مع سياسة المرشد الأعلى، والتي يمكن رصدها من خلال موقفه المسهّل والحذر فـي آن من الاتفاق النووي.
ويشير إحصاء أولي للنتائج النهائية المعلنة حتى الآن إلى أداء قوي لمعسكر روحاني والمستقلين بحصول الإصلاحيين على 30 بالمئة من المقاعد والمحافظين على 40 بالمئة والمستقلين على 17 بالمئة، فـيما ستجرى انتخابات الإعادة على 13 بالمئة من المقاعد فـي أيار (مايو) المقبل، وذلك فـي الدوائر التي لم يتمكن المرشحون فـيها من بلوغ عتبة 25 بالمئة من الأصوات. ومن غير المحتمل أن تؤدي جولة الإعادة الى إحداث فرق فـي موازين القوى داخل مجلس الشورى، خصوصاً أن مرشحي الدورة الثانية يتوزعون بشكل شبه متساو بين المعسكرين الإصلاحي والمحافظ.
وبذلك، يمكن القول ان الانتخابات الاخيرة لم تضمن أي فوز واضح وجلي لأي من الفريقين، سواءً من الاصلاحيين والمحافظين، فـي الدورة الأولى. كما لم يحصل أي منهما على الغالبية التي كان يتمتع بها المحافظون بشكل كبير فـي مجلس الشورى المنتهية ولايته.
لكن الاصلاحيين المتحالفـين مع المعتدلين من أنصار روحاني نجحوا فـي إقامة توازن مع المحافظين، سواء فـي مجلس الشورى او مجلس الخبراء، وهم سيحظون بعدد نواب أكبر بثلاث مرات على الأقل مما كان للإصلاحيين وحدهم من قبل (30 نائباً)، كما أنهم فازوا خاصة بكافة المقاعد الثلاثين للعاصمة طهران. ولا بد من التذكير فـي هذا السياق، الى ان الاصلاحيين قاطعوا بمعظمهم انتخابات العام 2012، احتجاجا على اعادة انتخاب المحافظ محمود احمدي نجاد رئيساً للجمهورية فـي الانتخابات الرئاسية الشهيرة التي جرت فـي العام 2009، والتي استتبعت اندلاع ما سمّي «الثورة الخضراء»، التي انتهت بفرض الاقامة الجبرية على زعيميهما فـي تلك الفترة مهدي كروبي ومير حسين موسوي.
وأفضت الانتخابات الأخيرة الى اقصاء معظم المحافظين المتشددين وستتمكن الحكومة من الاعتماد إضافة الى مؤيديها على أصوات النواب المحافظين المعتدلين فـي ما يتعلق ببعض الملفات أو الإصلاحات.
نحو الاعتدال
ولعل النتيجة الأبرز للانتخابات الأخيرة تتمثل فـي أن الرئيس حسن روحاني ومن حالفه من إصلاحيين ومعتدلين، وبرغم عدم حصولهم على الغالبية المطلقة، قد نجحوا فـي تعزيز موقعهم على الساحة السياسية الداخلية، من خلال المكاسب الانتخابية التي ستعطي دفعاً لسياستهم الانفتاحية المتواصلة منذ أكثر من عام، والتي بلغت ذروتها فـي التوصل الى التسوية النووية التاريخية مع الغرب، برغم معارضة المحافظين لها.
وليس من دلالة على استمرار نهج التسوية النووية أهم من حقيقة أن معظم المشرّعين الذين لم ينجحوا فـي الاحتفاظ بمقاعدهم فـي البرلمان الجديد كانوا يعارضون بشدة الاتفاق النووي، وأبرزهم مهدي كوجاك زاده الذي وصف وزير الخارجية محمد جواد ظريف بأنه «خائن»، وروح الله حسينيان الذي هدد «بدفن المفاوضين تحت الأسمنت» لموافقتهم على تقديم تنازلات للقوى العالمية.
كذلك، فإن الانتخابات الاخيرة اقصت نوابا محافظين بارزين عارضوا عقود إيران الجديدة فـي قطاع النفط والغاز التي تهدف إلى جذب الاستثمار الأجنبي، وعارضوا كذلك الإصلاحات الاقتصادية التي اقترحتها حكومة روحاني، وهو ما يدفع الى التوقع بان مجلس الشورى الجديد سيفتح الطريق أمام تغيير السياسات الاقتصادية مما سيشجع الاستثمار الأجنبي والتجارة مع الغرب ورجال الأعمال.
والجدير ذكره، فـي هذا الاطار، ان مجلس الشورى السابق عرقل الكثير من خطط روحاني لتعزيز القطاع الخاص والتعامل مع الفساد والترحيب بالمستثمرين الأجانب، ولذلك فإن نتائج الانتخابات الاخيرة تشي بأن ثمة اتجاهاً إصلاحياً وتركيزاً على تحسينات فـي الاقتصاد والعلاقات الخارجية، ولكن ضمن إطار الضوابط المحددة من قبل المرشد الأعلى، إذ لن يجرؤ روحاني على إحداث تغيير جذري فـي ما يتعلق بالأمور ذات الحساسية السياسية مثل تحرير سوق العمل حيث أن اللوائح المقيدة بشكل كبير تجعل من الصعب تسريح العمال، وهي لوائح تعد من ثوابت الثورة الإسلامية.
واما النتيجة السياسية الابرز لهذه الانتخابات، والتي من شأنها أن تعزز قوة إيران، فـي الداخل والخارج، فتتمثل فـي عودة الإصلاحيين إلى النظام الحاكم، حتى لا يصفهم أحد بعد الآن بأنهم من «دعاة الفتنة» أو «متسللون»، وحتى لا يقول أحد إن ثمة شريحة غائبة أو مغيّبة قسراً عن الحياة السياسية فـي إيران.
واذا كان التوازن الذي تحقق فـي مجلس الشورى، من خلال التكافؤ السلبي بين المحافظين والاصلاحيين والمعتدلين، سيعني بشكل او بآخر استمرار السياسية البراغماتية المتبعة من قبل الرئيس روحاني، فإن التوازن الأهم الذي انتهت اليه الانتخابات يبقى داخل مجلس الخبراء، الذي حقق فـيه الاصلاحيون والمعتدلون نتائج مهمة، تمثلت فـي اقصاء شخصيتين محافظتين كبيرتين هما رئيس مجلس الخبراء آية الله محمد يزدي وآية الله محمد تقي مصباح يزدي، فـي حين لم ينجحوا فـي إبعاد آية الله أحمد جنتي، الرئيس القوي لمجلس صيانة الدستور، الذي يضطلع بدور حاسم فـي السياسة الإيرانية.
وتصدر الرئيس الإيراني الإصلاحي السابق أكبر هاشمي رفسنجاني قائمة الفائزين، تبعه المحافظ محمد إمامي كاشاني، فـيما حل الرئيس الإيراني ثالثا. وكان رفسنجاني وروحاني قدما لائحة منفصلة بغية إقصاء الشخصيات المحافظة الأكثر تأثيراً فـي مجلس الخبراء، الذي لا يزال محافظا بغالبيته.
وفـي جميع الاحوال، يبقى المرشد الاعلى الضمانة الأساسية لوحدة الجمهورية الاسلامية، خصوصاً أنه لا يؤيد رسمياً أي طرف، وهو الرجل القوي فـي البلاد وتعد تصريحاته حاسمة، ومن دون موافقته ما كان بالامكان التوصل الى الاتفاق النووي ورفع العقوبات التي كانت تخنق الاقتصاد الإيراني.
ومن خلال التوازن داخل مجلس الشورى ومجلس الخبراء، يمكن القول ان نظام الحاكم فـي الجمهورية الاسلامية سيضمن ألا يغير فصيل سياسي، السياسات الأساسية المتجذرة فـي جوهر مبادئه.
ويمنح نظام الحكم فـي الجمهورية الاسلامية الذي يجمع بين الدولة الدينية والنظام الجمهوري سلطة حاسمة فـي أيدي المؤسسة الدينية المحافظة التي أظهرت فـي الماضي قدرتها على تأكيد سيطرتها متى شعرت بأنها مهددة، وهو ما يجعل الاصلاحيين والمعتدلين اقل قدرة على الجنوح بعيداً فـي تغيير اسس الثورة الاسلامية.
ولعل تجارب الماضي موحية فـي فهم هذا الواقع، فـي المرة السابقة التي فاز فـيها الاصلاحيون بالسيطرة داخل البرلمان فـي عهد الرئيس محمد خاتمي (انتخابات العام 2000)، اعترض مجلس صيانة الدستور على عدة قوانين أقرها البرلمان واعتبرها مخالفة لمبادئ الشريعة الاسلامية. وكان محمد خاتمي وقتئذ يمتلك شعبية قلّما توافرت لرئيس إيراني. وقد توقع كثيرون فـي تلك الفترة ان تتجه إيران الى وفاق مع الغرب وإلى إصلاح اقتصادي والتحرر الاجتماعي، ولكن تجربة خاتمي انتهت بانتصار المحافظين الذين نجموا، من خلال السلطة القضائية ومجلس صيانة الدستور، فـي سد ما فتحه خاتمي من قنوات، واعترضوا على قوانين إصلاحية رأوا فـيها تهديداً لمبادئ الثورة الاسلامية.
ومع ذلك، فإن حضور المعتدلين والاصلاحيين فـي مجلس الخبراء سيسهم بشكل او بآخر فـي تأمين دعم خامنئي لسياسات روحاني، خصوصاً ان ثمة تأثيراً كبيراً لهذا المجلس على قرارات المرشد الاعلى، ولذلك فإن المعسكرين المحافظ من جهة، والاصلاحي-المعتدل من جهة اخرى، سيسعيان من دون شك الى اقناع خامنئي بوجهة نظرهما، لتبقى للمرشد الاعلى الكلمة الفصل فـي كافة القضايا المصيرية.
هكذا، تخرج إيران اليوم محصنة من الداخل، بعد ما حققته من انجازات فـي الخارج، فلا يمكن لأحد فـي الخارج بعد اليوم ان يجادل باقصاء طرف من الحياة السياسية، ليحرّض على «ثورة خضراء» جديدة، ولا يمكن لأحد فـي الداخل ان يعطل سياسة الانفتاح النووي، أو أن يمس بثوابت الثورة الإسلامية، التي يبقى المرشد الاعلى، ومن خلال التوازن الانتخابي الجديد، الحارس الصلب لها، والمؤتمن على ترسيخها.
Leave a Reply