فاطمة الزين هاشم
هل يستحقّ درّة الشرقَين – لبنان – هذه المهزلة التي يحياها على أيدي بعض أبنائه المحسوبين عليه من الرعاع ومسّاحي الجوخ المهترئ من عباءات لا تُخفـي وراءها إلّا الجهل والبطون المنتفخة بأموال البترول التي تُصرف على ذبح الشعب العربيّ المسالم فـي اليمن، وعلى النساء الأجنبيّات اللواتي يتفنّنّ فـي الـ «تشليح» والضحك على الذقون؟ بينما يحيا ثمانية ملايين سعودي تحت خطّ الفقر بحسب ما أعلنه خبراء السياسة والاقتصاد فـي العالم، أليس من حقّ هؤلاء الملايين أن يتنعّموا فـي عيش كريم بتلك الأموال بدلاً من أن تُهدر فـي طرق الحرب والجريمة والعهر؟
أمّا عن جعجعة الحديث عن الهبة التي حُجبت عن الجيش اللبناني، فلبنان كان فـي غنىً عنها لو لم يسرق أحد أقطاب الدولة، المليارات ويُخفـيها ثمّ يتشدق بالحديث عن النزاهة والأخلاق والدستور! فإذا أردنا أن نخضعه إلى محاكمة ضميرية قبل أن يأتي اليوم الذي يحاكمه الدستور، فهل تقتضي الأخلاق الوطنية أن يسرق أموال الشعب ليبيح لنفسه المرور فـي حديثه عن الدستور الذي ألزمه بالإخلاص لوطنيّته وقضيّة شعبه؟ فالمليارات التي سُرقت لو رُصدت لتسليح الجيش اللبناني لما تصاعدت الرائحة النتنة من التمسّح على أعتاب السفارة السعوديّة وتقبيل الأيادي والخنوع والذلّ المرسوم على الوجوه الكالحة المفضوحة، لينتهي الأمر بأولئك المتهافتين على تلك السفارة بالوقوع فـي شباك الفضيحة المشبوكة بخيوط السرقة، سرقة أموال الشعب، ليسهموا فـي دفع اللبنانيين إلى البحث عن الخلاص الحياتي فـي أصقاع الأرض!
ألم تتوضّح الحقيقة المأساويّة أمامهم حين أصبحت الـ «شنطة» هي القاسم المشترَك بين اللبناني وحكّامه؟ حيث يملأ السياسيون «شنطتهم» من دماء وعرق الشعب، أي من فلوس الخزينة، فـيما يبيع اللبنانيون كل ما يملكون حتى يعبئوا ثيابهم «بالشنطة» ويهاجرون؟
وحتّى أمام المشهد المأساوي لعالم الهجرة، نرى شبابنا يُهاجرون إلى دول الخليج للعمل، حيث تحتاج تلك الدول إلى خبراتهم وسواعدهم القويّة. وهم، لطالموا ساهموا بعرقهم وكدّهم فـي بناء السعوديّة مثلاً وعلّموا السعوديّين النهوض ببلادهم فـي شتّى المجالات، إذ لولا خبرات وجهود اللبنانيّين لما نهضت السعوديّة ببنائها، ليُجازوا اليوم بالطرد دون وجه حقّ.
لقد نسوا أنّ الشعب اللبناني هو واحد من أرقى وأعرق شعوب العالم تحضّراً، ومن بلده (لبنان) انتشرت حروف الهجاء إلى بقية أرجاء العالم، ذلك أن أجدادهم، الفـينيقيّين الذين ذكرهم المؤرّخ هيرودتس-اكتشفوا الأبجديّة فقد أثبتت الحفريّات سنة 1923 أن ناووس الملك أحيرام فـي منطقة جبيل اللبنانية يحوي نصّاً متكاملاً لتلك الأبجديّة، ومايزال معروضا فـي المتحف الوطني ببيروت.
جبيل.. أرجوانة الشرق تشهد على ذلك، وصيدا وصوروغيرها، فقد بارك السيّد المسيح لبنان عند زيارته له مع أمّه السيّدة العذراء عند الشاطئ الجنوبي، على بُعد اثني عشر كيلو متراً جنوب شرقي صور، وحينما ضايقه اليهود جاء من يقول له: اخرج فإنّ هيرودس يريد أن يقتلك مثلما قتل حنّا المعمدان، غير أنه عاد إلى تخوم صيدا وصور مطلع العام 32 للميلاد. أليس هذا دليلاً على عظمة لبنان فـي أن يزوره نبيّ بقداسة سيّدنا المسيح؟
إننا نستغرب من تصرّف أولئك الخانعين المتسكّعين على أعتاب من لا يستحقّون أدنى درجة من الاحترام، وكيف لا يقدّرون قيمة لبنان وعظمته فـي التأريخ وهم يدّعون تمثيله، عندما أحنوا رؤوسهم لأولئك الذين يريدون أن يبقى لبنان تحت وصايتهم ويضمّوه تحت خيمتهم؟ نعم إنّ من قبضوا فلوس السعودية هم أنفسهم الذين يحكمون بلدنا الآن، المفضوح على محطّة «سي أن أن» التلفزيونية التي عرضت أكوام الزبالة المنتشرة فـي الشوارع!
كان لبنان فـي مقدمة البلدان التي يقصدها السياح من مختلف دول العالم، وقد أدنته حكومته إلى مستوى الزبالة، فلم يعد الأمر يُطاق إلّا برحيلها مع الزبالة فـي نفس الحاوية، فلبنان لوحة فنيّة نادرة مختلفة الألوان لا تستوعب إضافة لون آخر إليها ليشوّه معالمها.
وعلى الرغم من بؤس وكآبة هذا المآل فإنّ لبنان الشعب البسيط، مازال يرفض الاستسلام والانكفاء أمام عملية تهديم الوطن المستمرّة بعناد فريد، فهو مازال متمسّكاً به فـي كلّ قواه، وها هو يتجاوز السلبيّة إلى التصدّي المباشر لكلّ من يحاول أن يخذله، فكم يستحق لبنان أن يبقى وطناً رائداً ومتحضرا وسط ظلمات الجاهلية الجديدة.
Leave a Reply