بلال شرارة
نهر هرِم، «وعيت عليه من صغري»، حدّثني عنه أبي، وجدي لأبي. قرأت عنه فـي الكتب أنه يمتد من القلب (النبع) الى البحر (المصب)، منذ الخليقة وهو يكرج هكذا.. ظل يكرج (رغم عيوننا) على غير عناية منه بين ضفتيه، أحياناً فـي الشتاء كان يفـيض عن حاجته.. يدلدق على الأرض ناحية الكروم، يغمر أرض الوادي ثم يعود الى ضميره ويتركها تنشف.
وفـي الصيف، وكأننا لا عندنا ماء ولا من يحزنون..
منذ أول الصيف نعود لنشتري ماء لنسقي الزرع (بل قبل ذلك بكثير نشتري ماء من أجل الطهي والاستخدام الشخصي). نحن هكذا مثلنا أشجارنا ما أن تنقشع السماء ويتوقف هطول الأمطار حتى يتملكنا العطش، حتى أننا فـي الشتاء أحياناً نشتري ماء للشرب أو نغلي ماء للشاي!
النهر الهرِم، يقطع بلاداً و قرى، يغترب أو يقترب من مكان الى مكان… النساء يمسحن اكفهن بمائه ويغسلن باطن اقدامهن، لا يغتسلن فـيه, ليس لأنهن لا يتجرأن او لا يجدن السباحة فحسب، بل لأن «السباحة والرماية وركوب الخيل» مهارات ذكورية كما يقول شيخ الضيعة.. إذ كيف للمرأة ان تستحم فـي النهر الذكر ومن سيحلله لها؟!
النهر الهرم يعبر من هنا ومن هناك.. تقيم على ضفتيه أشجار الجوز والحور والصفصاف ويأتي اليه القمر الصبي فـي ليالي السهر البيضاء.
الأمهات عندنا يغسلن وجوههن فـي هدأة مياهه بـ«الصابونة والحجر» بعد أن يردوا على المكان ستاراً من الاشجار العتيقة. أما الشمس الصبية فهي تنشف القمر بأشعتها، تنشف له شعره وتكوي له ملابسه الفضية وتضع على رأسه قبعة الماء ثم تدعه يمضي.
النهر الهرِم، ليس من عندنا من الضيعه بالأساس، صحيح أن ضيعتنا تقيم بعيدة عنه قليلاً حتى لا تبلل شعرها بالماء، إلا أن الصحيح هو أن النهر ليس له فـي دفاترنا رقم سجل ولم يذكر أحد أمامي اسم والدته أو والده ولا اسم شهرته، كل ما هو مكتوب عنه فـي كتاب قديم أن له علامة فارقة: جرح غائر فـي خد التراب طافح بالماء.. ينبع من عين الحرية ويصب فـي بحر المرمر.
النهر الهرم، أنا، الناس يشربون مني بقاع أكفهم ثم يرمون فـي جوفـي حجراً. لقد سدوا منافذي، ردموا المجرى.. صرت فـي الشتاء مثل نهر «أبو عامود» اجتمع إذا أمطرت بشده ثم انسحب بسرعة. أختفـي.. أذوب فـي قاع الأرض.
أنا، كنت أعرف أنني أنا النهر الهرم، سأعود ذات يوم لأشق طريقي وسط الحواكير الخصبة، وإذاك ستكون أشجار اللوز قد أزهرت وارتدت فساتين أعراس الربيع.
آه، لو أني فعلاً أنا النهر العجوز لكتبت الماء على أبهة عطشكم..
آه، لو أني، لغسلت الغضب المكتوب على قلوبكم..
آه..
Leave a Reply