مريم شهاب
تلقيت العديد من تعليقات القرّاء على المقال السابق، تضمن معظمها تعبيرات عن حنين صادق وإيجابي لأيام زمان، أيام الخير، أو أيام الزمن الجميل، أو العصر الذهبي الذي عاشه العديد ممن ينتمي لجيلنا فـي قرى جنوب لبنان، رغم أنها كانت أيام «هباب» وفقر وعيش خشن.
نبدأ مثلاً بالمنازل التي لم تكن حينها بيوتاً بالمعنى المتعارف عليه اليوم، فقد حازت على الحد الأدنى من الشروط التي تجعل المنزل مكاناً ملائماً للسكن: سقف وحيطان وفتحات قليلة فـي الجدران بمثابة الأبواب والنوافذ. غرفة واسعة فـيها طاقات صغيرة عادية، والأثاث كان بسيطاً جداً، عبارة عن «نملية» (أي خزانة للطعام) وسحّارة (صندوق توضع فـيه صرر الثياب، حيث لكل فرد من الأسرة صرّة صغيرة من الملابس). وفـي تلك الغرفة كان ينام جميع أفراد الأسرة، مهما كان عددهم كبيراً فـي ليالي الشتاء والبرد القارس.
وكانت هناك غرفة أخرى للحيوانات الداجنة من بقر وغنم وماعز وحمير. كل انسان حسب مقدرته على اقتنائها والعناية بها. وكانت معظم القرى تتشابه فـي بساطة العيش ورتابة السكون، وجميعها تغرق فـي الجهل والبؤس. كما كانت معظم منازلها تخلو من المراحيض، وكان قضاء الحاجة يستوجب المشي إلى الحقول أو الكروم المجاورة أو إلى الخلاء أو فـي إسطبل الحيوانات الملاصق عادة للمنزل.
كانت اللحوم نادرة فـي تلك الأيام، ولا تقدم إلّا فـي المناسبات، السارة أو الحزينة. لم تكن الندرة تنطبق على اللحوم فقط، بل تتعداها أحياناً كثيرة إلى الطعام نفسه على اختلاف مكوناته. وكان يقدّم أثناء الوجبات فقط، وقلّما يتبقى منه شيء للحفظ، إلّا بعض «الفتافـيت البايتة» التي يتم التهامها فـي اليوم التالي مع كوب من الشاي وكأنها خبز طازج ناضج، خارج لتوه من الفرن. أما «السناك» بين الوجبات، فكان بعض التين اليابس فـي الشتاء، وفـي الصيف ما تجود به الخضروات المزروعة فـي «السحاري» والكروم.
أما الولادة عند امرأة زمان، فقد كانت تتم فـي البيت على يد الداية والجارات. واحدة رايحة وواحدة جاية، حاملات ماء زهر وشراب سخن وشوربا «مصفاية»، بلا سلال ورد ولا علب بقلاوة ولا أخبار وتهاني باردة و«بيبي شاور».
عودة للسؤال فـي أول المقال، لماذا نحنُّ لتلك الأيام ونفتقدها ولماذا يتحسّر معظمنا عليها؟ لماذا تملأ ذكرياتها الكتابات على وسائل التواصل الاجتماعي؟ لماذا نرويها لأطفالنا وأحفادنا إلى حدّ الملل؟ لماذا يفـيض الحنين فـي الصدور أو «النوستالجيا» لذلك الزمن الخشن؟.
نحن الآن نأكل أشهى الطعام، ونسكن فـي بيوت فارهة، ونقود أفخر السيارات ونحمل الهواتف الذكية ونتواصل بسهولة مع العالم أجمع، ونرتاد أرقى مؤسسات العلاج الطبي والنفسي، وبالرغم من ذلك يضج فـي داخلنا خواء وفقد للأمن والأمان والاطمئنان وبساطة العيش.
فـي صدورنا حنين للبراءة والتلقائية فـي التعامل مع بعضنا. نفتقد لهفة الجيران والزيارات بدون تلفون وبدون موعد وبدون الإشارة لهذا مسيحي أو ذلك مسلم, لهدوء القرية وساحتها العامة، والسهر على ضوء القمر حيث لا هواتف جوالة ولا رسائل نصية (مساجات) ولا دعايات عن التنزيلات والانتخابات.
نحنُّ إلى زمن التواضع والاحترام والأخلاق، نحنُّ الى المأكل المتقشف واللباس البسيط. نحنُّ إلى بدء الأكل بإسم الله بدل السؤال هل هذا اللحم حلال أكيد؟ نحنُّ إلى الأمل فـي الآتي. نحنُّ للحلم بشغف المستقبل بدل الحسرة على الماضي والبكاء عليه.
Leave a Reply