تتباين مواقف السياسيين الأميركيين حول العديد من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الداخلية والخارجية، ولكن القاسم المشترك الذي يجمع الساسة الجمهوريين والديمقراطين هو دعمهم غير المحدود، وغير المشروط، لإسرائيل، ليس فقط على حساب الحقوق الفلسطينية، وإنما أيضا على حساب المصالح الأميركية التي يفترض بهم تأمينها وحمايتها فـي المقام الأول!
والاهتمام بالمصالح الإسرائيلية ليس جديدا فـي بلاد العم سام، ولكنه يتكرر فـي كل مناسبة، بما فـيها حملات الترشح إلى الرئاسة الأميركية، ولهذا لم تفاجئنا المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون -فـي خطابها أمام «لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية» (آيباك)، الاثنين الماضي- وهي تبدي «تفهما» وانحناء أمام سياسات الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، إضافة إلى أنها انتقدت منافسها الجمهوري دونالد ترامب لكونه «لينا مع الفلسطينيين»، حيث قال فـي إحدى تعليقاته السابقة «إنه سيكون محايدا فـي موضوع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لكي يتمكن من عقد اتفاق سلام» بين الطرفـين. وما من شك، فإن تعليقات ترامب السياسية هذه ستكون أكثر كلفة مقارنة بتكاليف تعليقاته المتعصبة والمتحيزة ضد النساء والمسلمين والمهاجرين.
من ناحيته، ركز قطب العقارات فـي خطابه أمام «آيباك» الإسرائيلية على مهاجمة وانتقاد سياسات الرئيس باراك أوباما وحصد رضا وتصفـيق الحاضرين، فـيما امتلأ خطاب المرشح تيد كروز بالإشارات الدينية، لاسيما التوراتية، مركزا على انتقاد الإرهاب والتطرف الإسلاميين، مسعّرا أفكاراً خطيرة فـي مقدمتها أن اليهود والمسيحيين متحالفون ضد المسلمين، وهو بهذه الأطروحات يتفق على طول الخط مع أطروحات تنظيم «داعش» الإرهابي. وما من شك فـي أن مثل هكذا خطابات ستعمل على توسيع وتعميق التطرف الديني فـي جميع الاتجاهات، مما سيجعل من العالم مكانا أكثر خطورة.
أما تطلعات الفلسطينيين ونضالاتهم من أجل تحقيق دولتهم المستقلة، فقد كانت غائبة عن خطاب المرشحين الرئاسيين الذين تجاهلوا بشكل ملحوظ ممارسات سلطات الإحتلال وسياساتها القمعية والتعسفـية بحق الفلسطينيين وما تفرضه عليهم من إفقار، وحصار خانق على قطاع غزة، إضافة إلى تجاهلهم الحديث عن استشراء بناء المستوطنات اليهودية فـي المناطق الفلسطينية مع أنها ماتزال تشكل العقبة الرئيسة فـي محادثات السلام الرامية إلى تحقيق حل الدولتين، باستثناء إشارة غامضة ومخزية من كلينتون، التي قالت «إن على كل طرف أن يؤدي دوره فـي تجنب الممارسات والأعمال الضارة بما فـي ذلك ما يتعلق بالمستوطنات». وإذن كيف يمكن والحال هذه، أن تشرف وزيرة الخارجية السابقة، فـي حال وصولها إلى سدة الرئاسة فـي البيت الأبيض، على محادثات السلام، فـي الوقت الذي تصف فـيه الفلسطينيين بالإرهابيين وبالمعادين للسامية، وتخفف لهجتها وتداور من أجل تجنب نقد السياسات الإسرائيلية؟.
حملات مقاطعة إسرائيل ليست معادية للسامية
أما الموضوع المتكرر فـي أجندة «آيباك» الإسرائيلية فهو الاستمرار فـي شيطنة وتشويه صورة النشطاء الداعين إلى مقاطعة إسرائيل التي تنتهج سياسات مخالفة للشرعية الدولية وتتضمن اعتداءات غير أخلاقية بحق الفلسطينيين. وعندما تعهدت كلينتون -فـي خطابها أمام «آيباك»- بحماية الدولة الصهيونية من تأثير حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، فإنها فـي هذه الحالة كانت تساوي بين نشطاء «حملة مقاطعة إسرائيل» (دي بي أس) وبين المعادين للسامية.
قالت كلينتون مخاطبة طلاب الجامعات فـي الولايات المتحدة: آمل أن تكونوا أقوياء وأن تواصلوا التعبير عن مواقفكم.. لا تدعوا أي شخص يخرسكم أو يتنمر عليكم، خاصة فـي المؤسسات التعليمية، كالكليات والجامعات، مضيفة «إن معاداة السامية ليس لها مكان فـي مجتمع متحضر.. ليس لها مكان فـي أميركا ولا أوروبا ولا أي مكان آخر».
هذه التصريحات المنحازة لمست عصبا مكشوفا عند العرب الأميركيين، خاصة الطلاب منهم، الذين يطالبون جامعاتهم بوقف الاستثمارات مع الشركات المستفـيدة من الاحتلال الإسرائيلي، كما حصل عندما دعت حملة مقاطعة إسرائيل فـي «جامعة ميشيغن» ادارة الجامعة إلى وقف التعامل مع تلك الشركات، كما استضافت الصحافـي اليهودي الأميركي ماكس بلومنتال لمناقشة إمكانية تحقيق هذا الهدف. وهؤلاء النشطاء -الذين كان بينهم طلاب عرب ويهود على حد سواء- لا يمكن وصفهم بأية حال بأنهم معادون للسامية. ناهيك عن أن «حملة مقاطعة إسرائيل» تنتهج دعوات سلمية وتدعو إلى اعتماد منهج منطقي للضغط على الحكومة الإسرائيلية ودفعها إلى إنهاء الاحتلال وتحقيق السلام.
كما أن وصف العرب والمسلمين المطالبين بتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني بالمعادين للسامية يندرج ضمن خطاب الإسلاموفوبيا، فضلا عن أنه يروج لفكرة مخادعة وخبيثة مفادها أن جميع العرب والمسلمين يعادون ويكرهون اليهود. وأما تصريحات كلينتون (السابقة) ضد الإسلاموفوبيا فإنها لا تتسق مع مهاجمتها للفلسطينيين والداعمين لحقهم فـي الوجود وتقرير المصير، إنها على العكس تتناقض مع تلك التصريحات القديمة، وتصب بشكل مباشر فـي خانة الإسلاموفوبيا.
لقد بدا أن كلينتون كانت راغبة فـي مغازلة جميع مستمعيها من أعضاء «آيباك» الإسرائيلية، وكانت تقول ما يرغب الآخرون بسماعه منها. لقد انتقدت ترامب بسبب تصريحاته الإسلاموفوبية، ولكن بين سطور كلماتها كان خطابها الإسلاموفوبي واضحا، لا لبس فـيه.
لقد اشترك الكثيرون من الفلسطينيين ونشطاء «حملة مقاطعة إسرائيل» فـي دعم المرشح اليهودي بيرني ساندرز بسبب مواقفه المتقدمة من القضية الفلسطينية، بالمقارنة مع منافسيه فـي الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وها هو سيناتور فـيرمونت يثبت -لمرة جديدة- رؤيته المعتدلة من الصراع فـي الشرق الأوسط، خاصة وأنه لم «يحج» إلى مؤتمر «آيباك» الإسرائيلية كما «حج» الآخرون إليه.
لقد أكد ساندرز أنه رجل مبادئ، مع أننا نختلف معه فـي اعتبار إسرائيل صديقة للولايات المتحدة. فإذا كانت واشنطن صديقة لتل أبيب، فعلى الصديق أن يتكلم مع صديقه بصراحة، ما يعني أنه يجب على الولايات المتحدة أن تطالب الكيان الإسرائيلي (ومن منطلق الصداقة) بوقف الاحتلال والقهر الاقتصادي والعسكري والأمني الممنهج ضد الفلسطنيين، لأن استمرار هذه السياسات التعسفـية لا تهدد الأمن والاستقرار فـي الشرق الأوسط فقط، وإنما تمتد تأثيراتها إلى العالم بأسره.
إننا فـي «صدى الوطن» نحيي ساندرز على مواقفه المعقولة، ونؤكد مرة أخرى على دعمنا له، حيث قلنا منذ البداية إن مواقفه لا تصل إلى مستوى طموحاتنا، -لكنها تبقى فـي جميع الأحوال- خطوة فـي الاتجاه الصحيح.
Leave a Reply