كمال ذبيان – «صدى الوطن»
يُصنّف لبنان من الدول الأكثر فساداً، ويحتل مرتبة متقدمة فـي هذا السُلّم، حيث لا يخلو تقرير دولي صادر عن صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، أو هيئات غير حكومية تعنى بالشفافـية، إلا ويكون «بلد الأرز» و«سويسرا الشرق»، وما نظم به الشعراء من قصائد تتغنى بعظمته وجماله، غارقاً فـي الصفقات والمحسوبيات، وغياب المساءلة والمحاسبة، بالرغم من وجود هيئات رقابية إدارية ومالية وتربوية وصحية، وديوان للمحاسبة، وقضاء مالي، وآخر إداري (مجلس شورى الدولة)، وقضاء جزائي، إلا أنها كلها إما مقصرة أو متواطئة أو خاضعة للسياسة.
وقد تكشّفت خلال الأشهر الماضية، لاسيما فـي الأسبوعين الأخيرين، الفضائح التي ظهرت فـي ما يتعلق بالأمن الوطني، والأمن الصحي والغذائي، إضافة الى البيئي والتربوي، وكان أبرزها ما تمّ كشفه حول شبكة الإنترنت غير الشرعية، والقمح المسرطن، وازدياد الأمراض نتيجة ما خلفته النفايات المنتشرة عشوائياً فـي الشوارع، وطمرها بطرق غير صحية.
ولم يخلُ عهد رئاسي، أو حكومة من الحكومات المتعاقبة منذ الإستقلال، إلا وكان خطاب القسم لرئيس الجمهورية، والبيان الوزاري للحكومة، يتضمن فقرات أساسية، حول محاربة الفساد، والقضاء على الرشوة، ومنع المحسوبيات، لكن كل ما حصل، كان عمليات تطهير محدودة، تجري فـي الإدارة، وهي عبارة عن إنتقام سياسي من عهد سابق، لإدخال رجال العهد الجديد على مؤسسات الدولة، ليعيثوا فساداً فـيها، حيث لم ينفع قانون الإثراء غير المشروع، الذي قدمه النائب الراحل كمال جنبلاط تحت عنوان «من أين لك هذا»، فـي وقف الفساد، لأنه لم يُعمل به، وبقي حبراً على ورق، وأن قلة قليلة من المتورطين فـي الفساد أوقفهم القضاء، وهو ما حصل فـي مطلع عهد الرئيس إميل لحود، الذي لم يتمكن من تحقيق الإصلاح ففشل، وهو اتّهم رئيس جهاز الأمن والإستطلاع فـي القوات السورية، العميد غازي كنعان بأنه تواطأ مع الرئيس رفـيق الحريري، على منع استكمال العملية الإصلاحية.
وحاول الرئيس فؤاد شهاب القفز نحو الإصلاح الإداري، فأنشأ هيئات الرقابة كالتفتيش المركزي، ومجلس الخدمة المدنية الذي يجري مباريات لوظائف الدولة، وديوان المحاسبة، وعزز القضاء، لكن خطواته هذه، وإن كانت حسّنت فـي أداء الإدارة، ومنع التدخل السياسي فـيها، لكن الوضع إنتكس فـي عهد الرئيس شارل حلو، الذي شهد عملية تطهير فـي الإدارة والقضاء، وحصلت فضيحة «بنك أنترا» التي هزّت الإقتصاد اللبناني، وأثّرت مدخرات المواطنين فـي المصارف، وتمّ سجن موظفـين كبار يعملون فـي البنك، حيث طاول الفساد مؤسسات الدولة، ولعب المكتب الثاني (مخابرات الجيش) دوراً فـي تأمين الحماية لفاسدين، لأن بعضهم كان من فريق الشهابية ويدين بالولاء لها، الى أن حصل الإنقلاب عليها فـي العام 1970، بإنتخاب الرئيس سليمان فرنجية الذي لم يكن عهده أقل فساداً ممن سبقوه، فأدخل الى السلطة ومؤسسات الدولة حاشيته، وأبناء عشيرته الزغرتاوية، وذاع صيت أن الرئيس فرنجية، لا يريد بعد خروجه من قصر بعبدا، أن يرى فقيراً من بين أتباعه ومناصريه وعائلته الصغرى والكبرى، وهو ما ينطبق على عهدي الرئيسين بشارة الخوري وكميل شمعون، وقد بلغ الفساد أثناء رئاستيهما للجمهورية، مرتبة متقدمة، حيث سُمي عهد الخوري بعهد «السلطان سليم» شقيقه الذي إرتكب الموبقات، والذي كان سبباً فـي قيام «ثورة شعبية وسياسية بيضاء» ضد الرئيس الأول للجمهورية بعد الإستقلال الذي زوّر الإنتخابات النيابية فـي العام 1947، ليجدد لعهده ست سنوات، لكن الشعب أسقطه فـي نصف الولاية عام 1952، ليخلفه الرئيس شمعون الذي كان من أركان الثورة على عهد الخوري، لكن لم يكن عهده نظيفاً، ففاحت رائحة الصفقات والعمولات حوله.
هذا هو لبنان منذ الإستقلال قبل 73 عاماً، وهو يغرق فـي الفضائح وأبطالها سياسيون يتوارثون السلطة، من جيل الأجداد فالآباء والأبناء والأحفاد، من العائلات السياسية، ومَن يأتي من خارجها، فـيسير على خطاها حيث شاعت عبارة بين المواطنين «يذهب الشبعان ويأتي الجوعان»، وتفسيرها الشعبي «حرامي رايح حرامي جايي»، وهكذا يزداد الفساد، الذي لا أحد يخفـيه، حيث الرشوة العلانية فـي إدارات الدولة، وعلى «عينك يا تاجر»، وكل من الفاسدين مرتبط بزعيم سياسي وطائفـي، أو جهة حزبية، ومرجعية قضائية وأمنية، وقد إرتفعت حدة الفساد منذ ما بعد إتفاق الطائف، وشارك فـيه مسؤولون سوريون أمنيون أو مدنيون، من الذين تولوا الملف اللبناني، حيث كشفت التقارير، بأن العميد السوري غازي كنعان جنى من لبنان حوالي ملياري دولار، وأن الأمن السوري وجد فـي إحدى خزائنه الحديدية فـي منزله حوالي نصف مليار دولار بعد إنتحاره، وهو ما ينطبق على غيره من ضباط عملوا فـي لبنان كرستم غزالي الذي إعترف شهود فـي المحكمة الدولية فـي قضية إغتيال الرئيس رفـيق الحريري، أن الشهيد وقبل مقتله بيوم أرسل مبلغاً من المال الى غزالي فـي مقره فـي عنجر، مع مرافق الحريري يحي العرب (أبو طارق) الذي قُتل معه فـي الإنفجار، وهذا يدل على وجود شبكة مصالح لبنانية-سورية، أسست للفساد، وظهرت طبقة سياسية جديدة من الأثرياء، حيث تظهر تقارير دورية، تتحدث عن حجم الفساد الذي حصل فـي أثناء الوجود السوري، ومنها ما جرى فـي وسط بيروت وسيطرة شركة «سوليدير» عليها وما جنته من أرباح، كانت الحصة الكبرى لآل الحريري، وكذلك فـي الهاتف الخليوي، الذي نال الرئيس نجيب ميقاتي حصة كبيرة منها مع أشخاص آخرين، الى ما حققته شركة «سوكلين» من رفع النفايات من أرباح ومازالت، وهي محالة الى القضاء بشكاوى ضدها.
بعد انسحاب السوريين
ولم يتوقف الفساد مع خروج القوات السورية من لبنان، والذي كان يربطه بعض مَن كانوا يطالبون بإنسحابهم، بالوجود السوري، ليتبيّن أن المسؤولين اللبنانيين، هم مَن تلطوا وراء ضباط سوريين للسرقة أو إدخالهم شركاء فـي النهب وهدر المال، والدليل أن الصفقات والسرقات والهدر العام لم يتوقف، وأن شعارات الإصلاح، وإنشاء وزارة للإصلاح الإداري وعقد مؤتمرات لدراسة مسألة الإصلاح، كلها باءت بالفشل، مع غياب المساءلة والمحاسبة من قبل الهيئات الرقابية والقضاء، إذ كشف السجال بين رئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عواد وعضو الهيئة المفتش المالي صلاح الدنف، والإتهامات المتبادلة بالسرقة والتزوير، كيف أن مَن تقع عليه مسؤولية المراقبة والمحاسبة، هو مَن يجب أن يخضع لهما، ولم يتحرك القضاء للإستماع إليهما، بل دخلت التسوية السياسية على هذه الفضيحة للتغطية عليها، وهذا ما حصل، وهي نموذج لمئات الفضائح التي يتم التداول فـيها عبر وسائل الإعلام، وبين المواطنين، ويتحدث مسؤولون عنها، لـ«التمريك» على جهة سياسية أو موظف متورط، كما فعل النائب وليد جنبلاط الذي أشار الى أن فضيحة شبكة الإنترنت هي صراع عصابات، يدير بعضها رئيس «هيئة أوجيرو» عبدالمنعم يوسف الذي قدّم الحزب التقدمي الإشتراكي شكوى ضده بالفساد، وكان سُجن فـي عهد الرئيس لحود قبل حوالي عشرين عاماً بهدر المال العام، ليعيده الرئيس رفـيق الحريري الى وظيفته، والذي لم يتمكن وزير الإتصالات شربل نحاس من محاسبته، فإستقال.
وفضيحة الإنترنت تكرر ما جرى فـي العام 2009، عندما تمّ تركيب هوائي فـي جبل الباروك، من خارج شبكة شركة «أوجيرو»، وهو ما سمح لأصحاب «شبكة الباروك» من بيع خدمات بأسعار أرخص من السعر الرسمي لوزارة الإتصالات، فتمّ تفكيك الهوائي وتوقيف أصحابه وسجنهم، ليطلق سراحهم، ويعود بعضهم الى تركيب شبكة إنترنت عبر هوائيات من جرود الضنية الى فقرا وعيون السيمان والزعرور، فوضع القضاء يده عليها، وتحركت اللجنة النيابية للإتصالات، ليتبيّن عن هدر سنوي للمال بحوالي 60 مليون دولار من رصيد خزينة الدولة، حيث قدّر المبلغ بحوالي 500 مليون دولار خلال خمس سنوات، إضافة الى دخول العدو الإسرائيلي على الشبكة التي يستخدمها الجيش اللبناني ورئاسة الجمهورية ومجلس النواب ومؤسسات أخرى، مما يدل على حجم الفضيحة الأمنية والمالية، التي تتكرر منذ أكثر من عقدين فـي هذا القطاع الحيوي، الذي كان التحرك الحكومي والنيابي والقضائي والأمني خجولاً حول ما إنكشف حتى الآن، وظهرت أسماء لشخصيات سياسية وإعلامية ورجال مال وأعمال، وقد تصل الى سياسيين وأمنيين وإداريين، إذ لا يمكن بناء أربع محطات لشبكة الإنترنت من دون حماية سياسية وأمنية وقضائية، للقائمين على هذا المشروع.
أما الفضيحة الثانية فهي «القمح المسرطن» والتباين الذي ظهر بين وزراء: الصحة وائل أبو فاعور والإقتصاد آلان حكيم والزراعة أكرم شهيب، حول نتائج العينات التي خضعت لفحوصات مختبرية، حيث أثار ذلك استهجاناً لدى المواطنين الذين فقدوا ثقتهم بمؤسسات الدولة المليئة بالفساد الذي لم يطح برأس من الرؤوس التي ترتكبه، كما أن الحراك الشعبي، لم يكن له الدور الفاعل، وإن كان بدأ يؤثر فـي الرأي العام، الذي تقع عليه حركة التغيير، إلا إذا قرّر أن يبقى كما وصفه الأديب سعيد تقي الدين بـ«الرأي العام البغل».
Leave a Reply